يسعى المخرج السينمائي الكردي شوكت أمين كوركي عبر فيلمه الروائي الثالث «ذكريات منقوشة على حجر» إلى استعادة صور ونقوش وأصوات بعيدة ظلت محفورة في الوجدان، مثلما هي منقوشة على جدران الزنازين والأقبية والمعتقلات، كما يشير عنوان الفيلم، لترمز إلى حقبة قاسية؛ عصية على النسيان أو التلاشي. المقصود، هنا، هو حملات الأنفال التي شنها نظام صدام حسين ضد الأكراد في ثمانينات القرن الماضي وراح ضحيتها 182 ألف كردي، ما يعني أن ثمة حكايات كثيرة تعادل رقم الضحايا، وهو ما شكل معيناً خصباً للسينمائيين الأكراد الذين تناولوا مراراً قصصاً تدور حول «الأنفال» وتستنطق تاريخاً قلقاً. لكن ثمة دائماً ما هو جديد، وها هم شهود جدد يروون فصول الألم في شريط سينمائي لكوركي نال جائزة «أفضل فيلم من العالم العربي» ضمن مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في دورة مهرجان أبو ظبي السينمائي الأخيرة. البحث عن المختلف يدرك صاحب «عبور الغبار» و«ضربة البداية» أن الأفلام الكردية وثقت لحملات الأنفال من زوايا عدة، وبات الموضوع مبتذلاً لفرط التجارب التي ظهرت في هذا السياق، لذلك يبحث كوركي عن معالجة مغايرة غير تقليدية، إذ يدع الشعارات والأيديولوجيا جانباً، تلك التي طبعت الكثير من التجارب، كما أنه لا يفكر، البتة، في تصفية الحساب مع نظام «سحق الثورات والانتفاضات الكردية لعقود»، وإذ ينجح المخرج في الابتعاد عن الانفعال السياسي المباشر، فإنه يفلح في إنجاز شريط سينمائي مؤثر يحمل مضامين وقيماً إنسانية، وينتصر لأولئك الذين عاشوا أهوال تلك الحملات من دون أن يحملوا أية ضغينة أو نزعة للانتقام سوى ترميم صفحات الذاكرة المثقلة بالأوجاع. تنهض جاذبية السرد في هذا الفيلم على أن السينما تطرح همومها وتشكو وتحتج وتنتقد واقعاً اجتماعياً يقف ضد هذا الفن، ناهيك عن الظروف الإنتاجية الصعبة. لكن هذه الجزئية، أيضاً، المتعلقة بعراقيل العمل السينمائي طرحت مرات عدة. هنا يأتي كوركي كي يخرج عن المألوف، فهو لا يركز على تلك المشاكل المعروفة، المتعلقة بالتمويل غالباً وبالرقابة أحياناً، بل يغوص نحو زوايا أكثر عمقاً تتعلق بالقيم الاجتماعية السائدة التي يصعب خلالها العثور على فتاة تؤدي دور شخصية بطلة الفيلم، كما ينتقد تلك النجومية التي يتمتع بها بعض الفنانين من دون أن يكون له أي دراية بالفن وجمالياته، ويدين العقلية التي تنظر للفن بسذاجة عبر مشاهد كوميدية ساخرة تظهر في ثنايا فيلم يحكي عن الموت والحنين والمكابدات ووطأة الذكريات. المخرج السينمائي حسين (جسد دوره المخرج حسين حسن) يقرر بالتعاون مع صديق الطفولة «آلان» إنجاز فيلم عن «الأنفال»، لتبدأ حكاية الشقاء المليئة بالمفارقات والمفاجآت. المخرج السينمائي الذي ترك زوجته وابنه في بلد أوروبي جاء إلى كردستان كي يروي حكاية هو جزء منها، فهو ابن عارض سينمائي يتذكر كيف اعتقل والده، واختفى في سجون «البعث»، مرة واحدة وإلى الأبد. بهذا المعنى فإن الفيلم لا يمثل خياراً فنياً مهنياً، بقدر ما يمثل نوعاً من الوفاء لماض قديم لا يبرح الذاكرة. بعد تذليل العقبات الكثيرة، تظهر العقبة التي لا تخطر على بال، فما يؤرق صناع الفيلم هو كيفية العثور على فتاة تجسد دور سينور، الشخصية الرئيسة (أدتها شيماء مولاي)، في مجتمع ينظر للسينما بوصفها «ترفاً» يجذب الفاشلين والعاطلين من العمل. استعادة الماضي تتقدم فتاة، بمحض إرادتها، لتؤدي الدور، لا طموحاً في الشهرة والأضواء، وإنما لدوافع ذاتية تتعلق بجرح بعيد لم يندمل، فهي فقدت أيضاً والدها في تلك الحملات، وتطمح في أن تستعيد ذلك الماضي الذي سلب منها والدها، وهي لما تزل طفلة، فعاشت الحرمان الذي انعكس في ملامح وجهها الباكي؛ الحزين. اختيارها للدور سيدخلها في دوامة عصيبة مع أمها وعمها وابن عمها الذين يرفضون الفكرة، إذ كيف لفتاة أن تظهر في فيلم مع غرباء. لكن إصرارها يدفع العائلة إلى إبرام صفقة تقضي بقبولها الزواج من ابن عمها الذي رفضته سابقاً، كشرط للموافقة على أدائها للدور. هذه الصفقة تكشف عن صراع بين الجيل القديم الذي نجا من تلك الحملات ويسعى إلى طي صفحة الماضي الأسود وبين جيل شاب لا يريد للمحنة أن تندثر. ها هي سينور، الآن، تتجول في السجن الرهيب، الذي اختير مكاناً للتصوير. تسير بهدوء وسط الممرات والزنازين الخالية، لتتلمس اسماً منقوشاً على جدار. إنه اسمها، سينور، الذي خطه والدها حينما كان معتقلاً، فظل الاسم رمزاً صغيراً عن جرائم كبيرة وفظيعة. لا يستعين كوركي بأية وثائق بصرية عن تلك الأزمنة، وهي كثيرة بالطبع، ولا يغرق في تفاصيل قد تثقل سلاسة هذا الفيلم الذي يروي ظلال المأساة، وتداعياتها التي استقرت في النفوس كسرٍ لا يريد أحد البوح به. ممرات السجن وقتامة الأجواء وحبال المشانق والبوابات العالية والقضبان الحديدية... هي مفردات ترسم مناخات هذا الفيلم الذي يقتفي دروب العذاب من دون عويل أو دماء أو أصوات رصاص. ثمة موسيقى تصويرية شجية تضفي على المشاهد مسحة حزن، إذ يبدو فريق العمل وكأنه منهمك في ترتيب «شعائر الجنازة»، بتعبير جان جينيه، لا في إنجاز فيلم يفترض القليل من المرح. يأخذ الفيلم في بعض المواقع بعداً ميلودرامياً، ولا سيما عندما يتعرض المخرج، في مشهد يبدو مفتعلاً، لإطلاق نار من خطيب بطلة الفيلم، فينقل للمستشفى ويتعرض لمساومات تجبره على قبول المال والمصالحة من أجل استئناف الفيلم، وهو هنا يضطر إلى إعطاء تعليماته من المستشفى الذي يرقد فيه لاستكمال مشاهد الفيلم، وهو ما يذكرنا بتجربة يلماز غوناي الذي كان يعطي تعليمات مماثلة لزميله شريف غورين، بينما كان معتقلاً. وهذه الجزئية تمثل تحية لرائد السينما الكردية الذي نرى بوستر فيلمه الأشهر «الطريق» في مشاهد مختلفة. وإلى جانب هذا المنحى الميلودرامي الطارئ، وتلك اللمسة الساخرة التي تتخلل السرد، تأتي حركة الكاميرا وزوايا التصوير، إلى جانب أداء الممثلين المبتدئين، وكأننا إزاء فيلم تسجيلي ينطوي على نبرة تصالحية خفية، ونبرة استهجان من واقع لم يتعلم من دروس الماضي جيداً، فمظاهر الفساد والابتزاز والتخلف تبرز بوضوح في إقليم كردستان الفتي الذي يتطلع نحو المستقبل. لكن ثمة تاريخاً طويلاً من التقاليد والعادات تكبح هذا الجموح. فيلم داخل الفيلم تشتبك السينما مع الواقع، وتتداخل أصداء الماضي البعيد مع تفاصيل الحاضر، ويمتزج الهم الفردي مع الهم العام عبر توليفة اجتهد السيناريو في حبك خيوطها وتفرعاتها، مثلما نجح المونتير إبراهيم ساعدي في ضبطها عبر انتقالات في الزمان والمكان، محسوبة بأناة، لنكون أمام فيلم داخل فيلم. نهاية الفيلم جاءت متوقعة، فقد أنجز الفيلم المنتظر الذي يعرض، خلال الدقائق الأخيرة، في الميدان ذاته الذي شهد الكثير من الإعدامات في صباحات بعيدة. لكن المخرج يذهب بالسخرية إلى أقصاها، إذ لا يسلم العرض من مفارقات تتمثل في تعطيل المولد الكهربائي إلى حين، ثم يسقط المطر فجأة ليهرب الجمهور، بينما يتابع فريق العمل صور الفيلم عبر خيوط المطر التي تظهر أرضاً عطشى للجمال والنقاء والأمل بعدما كانت مسرحاً، ولعقود طويلة، للنزاعات والحروب والثورات الخائبة.