خلال الأشهر الاثني عشر الماضية تباهى نظام الأسد مراراً وتكراراً بثقته إزاء تحسّن وضعه الاستراتيجي. فقد حفّزه التقدّم البرّي في بعض الجبهات، خصوصاً حول حلب، وفي أجزاء من ريف حماة وحمص، وفي منطقة القلمون والمناطق المجاورة للعاصمة دمشق، على الحفاظ على نهجه المتشدّد في التعاطي مع الثورة السورية العنيدة. ويركّز هذا النهج على العمل العسكري، إلى الحدّ الذي يتم فيه الاستبعاد الكامل لأي عملية سياسية قد تنطوي على إصلاحات ذات صدقيّة في أي مجال من مجالات السياسة العامة، ناهيك عن تقاسم ذي معنى للسلطة. بيد أن النظام بات يعاني في شكل متزايد من التمدّد الزائد عسكريّاً وماليّاً، بالتالي فإن رفضه تغيير نمط تعامله سياسياً مع حاضنته الشعبية، ناهيك عن خصومه، يعرّضه للخطر. على رغم أهمية المكاسب التي حققها النظام، وإمكان أن تكمِل قواته تطويق مدينة حلب، يبدو جلياً أنه أصبح أكثر ضعفاً في أجزاء أخرى من البلاد. فقد حقق تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) مكاسب إضافية في شرق محافظتي حماة وحمص، حيث يمكن نظرياً أن يخترق خطوط النظام ليندفع باتجاه إدلب أو القلمون. كما حققت التحالفات المحلية بين بعض الثوار المعتدلين و «جبهة النصرة» المرتبطة بتنظيم «القاعدة» مكاسب كبيرة في الجنوب وجنوب غربي دمشق، وعادت إلى الظهور في منطقة القلمون. بالتالي، فإن هذا الوضع يجبر النظام على وقف هجماته في الشمال ويشتّت جهوده العسكرية، في وقت يتعيّن عليه أيضاً مواجهة الضغط المتزايد من جانب «داعش» على معقله الأخير المتبقي في مدينة دير الزور في الشرق. لقد أشار كثرٌ من المعلقين إلى أن النظام يستدعي جنود الاحتياط الذين أدّوا أصلاً خدمتهم العسكرية، وينقل المجندين من «قوات الدفاع الوطني»، حيث سمح لهم بالخدمة سابقاً، إلى الجيش النظامي. ومغزى ذلك هو أنه يشير إلى تفاقم النقص في عديد القوى المقاتلة. بالتالي، أصبح من الصعب على قوات النظام دعم وإسناد خط المواجهة في جميع النقاط، في آن واحد. فقد اضطر الجيش مراراً وتكراراً إلى إرسال وحدات قتالية مجرَّبة ومتمرِّسة من نقطة ضعيفة إلى أخرى بطريقة أشبه بعمليات الإطفاء، كلما تراجعت الميليشيات غير النظامية التي يعتمد عليها. وتؤكد المصادر العسكرية من الداخل أن التردد في الاستيلاء على مدينة حلب، وهي الجائزة الكبرى، إنما يدل على افتقار الجيش الى الفرق الكافية لإنجاز هذه المهمة المكلفة بشرياً. بيد أن النظام لم يفقد إلى الآن تفوقه على معارضيه. فكثافة وتحصين مواقع الجيش وتدفق التكنولوجيا العسكرية الروسية الجديدة تعني أن ثمّة معارك صعبة تنتظر «داعش» قبل أن ينتزع حقول الغاز نهائياً في «جبل الشاعر»، التي هي الآن تحت السيطرة المحكمة للجيش مرة أخرى، أو دير الزور من النظام. لكن، حتى لو أمكن النظام رد تقدم الثوار أو «داعش» في منطقة أو أخرى، فإن أي خسارة كبيرة جديدة للأرواح في صفوف الجيش، كما حدث في مطار الطبقة في آب (أغسطس) الماضي، أو أي تهديد مباشر للمناطق الموالية، سيكون له أثر نفسي قوي على القاعدة المجتمعية للنظام التي بدأت تُظهر على مدى أشهر تزايد مشاعر الاستياء إزاء الخسائر البشرية المتواصلة، وتردّي الأوضاع المعيشية والاقتصادية. وفي الوقت ذاته، فإن قدرة النظام على احتواء المعارضة داخل الدوائر الموالية له، من طريق الإعانات والتعويضات لأسر القتلى على سبيل المثل، آخذة في التناقص بسبب العجز المالي المتفاقم. وهذا أيضاً يزيد من صعوبة استيراد احتياجاته من الوقود والطاقة، حيث أدّت الضربات الجوية التي تشنّها الولايات المتحدة على مصافي النفط التي يسيطر عليها «داعش» في الشرق، والهجمات التي يشنّها التنظيم على محطات معالجة الغاز الطبيعي التابعة للنظام، إلى خفض إنتاج الكهرباء مع بدء فصل الشتاء. وقد انخفضت المساعدات الإيرانية، ومن المستبعد أن تعود إلى مستوياتها السابقة في ضوء الانخفاض الحادّ في أسعار النفط العالمية. ويقال كذلك إن روسيا رفضت طلب النظام أخيراً توفير تسهيلات ائتمانية جديدة بقيمة بليون دولار، وهي تكتفي بتقديم كميات أصغر من المعونة والاستثمارات. ويقدّر بعض الاقتصاديين أن أموال النظام ستنفد قبل نهاية عام 2015. وحتى لو كانت تلك التقديرات تبالغ في حجم التحدّي، أو تقلِّل من حجم الاحتياط المالي المخفي، إلا أنها تقلّص خيارات النظام الخاصة بمواصلة سياساته الحالية إلى أجل غير مسمّى. لا ترقى المعارضة في الأوساط الموالية حتى الآن إلى درجة تشكيل أزمة سياسية حادّة. بيد أن هذا الأمر قد يتغيّر مع بروز تحوّلات استراتيجية على الأرض. ذلك أن عودة «جبهة النصرة» إلى الظهور باعتبارها قوة متمرّدة بارزة، على الأخص، تشير إلى أن الصراع المسلح في جزء كبير من سورية (باستثناء الجيوب الكردية) قد يتقلّص ليقتصر على الأطراف المسلحة الرئيسية الثلاثة خلال الأشهر المقبلة: النظام وتنظيم «الدولة الإسلامية» و «جبهة النصرة» (التي قد تعمل كإطار تنسيقي لجماعات الثوار المعتدلين التي توافق على العمل معها). وبدلاً من مواجهة تمرّد مسلح كان استثنائياً في تفتّته، وبطء تطوّره العملياتي والسياسي، سيواجه النظام حركتين مسلحتين، تنظيم «الدولة الإسلامية» و «جبهة النصرة»، أظهرتا مستوى أعلى بكثير من قدرة القيادة والسيطرة. على المدى القصير، سيصوّر النظام هذا أنه دليل لا جدال فيه على ما ادّعاه طوال الوقت من أن معارضيه الحقيقيين هم كل المتطرّفين الجهاديين، ويقدّم نفسه مرة أخرى كحليف واضح وطبيعي للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة «داعش». وقد علّق الأسد آماله على مثل هذا التحالف بوضوح، عندما تحدث إلى مجلة «باري ماتش» الفرنسية في 28 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، مدّعياً أنه «لا يمكن تدمير الإرهاب من الجو، ولا يمكن تحقيق النتائج على الأرض من دون وجود قوات برّية تعرف تفاصيل المناطق الجغرافية وتتحرك بالتزامن مع الضربات الجوية». لكن، إذا خيّبت الولايات المتحدة وشركاؤها في التحالف آمال الأسد، كما هو مرجّح، فسيتعرّض النظام لضغوط متزايدة داخلياً. فبعد أن فقد الميزة الحاسمة المتمثّلة بتفوّقه النسبي على التمرّد المسلح في السابق، سيحتاج إلى إيجاد موارد محلية وخارجية أكبر. غير أن هذه الموارد بلغت حدّها الأقصى فعلياً، ولا تمكن زيادتها من دون دفع ثمن سياسي باهظ. وعلى المستوى المحلي، سيجهد النظام للاحتفاظ بسيطرته الفضفاضة على الكتل العسكرية والاقتصادية شبه المستقلّة التي شجّع على ظهورها كوسيلة لتحويل عبء الدفاع وإيجاد الإيرادات في المناطق الموالية. وإذا كان النظام يبدو غير قادر على حماية المراكز السكانية الضعيفة أو تخفيف الضغوط المالية على الجماعات الموالية، أو غير راغب في تحقيق كل ذلك، فقد تبدأ جبهته الداخلية بالتداعي. لا تزال هذه اتجاهات محتملة، ليس أكثر. وقد ردّ النظام حتى الآن على هذه التحديات بتكثيف التدابير الأمنية وتركيز السيطرة في يد الأسد. وعلى رغم أنه استخدم تلك السيطرة في بعض الأحيان لتعزيز سياسة «المصالحة» كما يطلق عليها النظام في بعض ضواحي دمشق، إلا أن سعيه إلى السيطرة على أدق التفاصيل، يكشف عجزه عن ضمان انصياع المجتمع للسياسات الحكومية، مثل الامتثال للخدمة العسكرية، أو الأداء الفعّال من جانب أجهزته القسرية المختلفة. وحين يتباهى بعض كبار الضباط بأن الجيش سينتقل إلى استرجاع الرقة بعد استعادة حلب، فإنهم يبالغون في تقويم قدرات الجيش، ويتغاضون عن محدودية موارد النظام، ويقلّلون من شأن خطر فقدان عاصمة محافظة ثانية في دير الزُّور. وفي السياق نفسه، فإن آمال النظام بإقناع رجال الأعمال السوريين بإعادة الرأسمال الهارب من الخارج إلى سورية واستثماره في منطقة حلب الصناعية وغيرها، لم ولن تأتي سوى بنتائج متواضعة. من الناحية النظرية، يمكن النظام أن يخفّف من أعبائه المادية والسياسية عبر الانخراط جدّياً في مقترحات الحدّ من مستويات العنف في البلاد، سواء من خلال هدنة عامة أحادية الجانب، أو عبر «تجميد القتال في حلب» الذي دعا إليه ستيفان دي ميستورا مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سورية. فمن شأن ذلك أن يظهر استجابة مُقنعة لرغبات الدوائر الموالية التي يُطلب منها أن تتحمّل العبء الأكبر ليس لمعركة لا نهاية لها وحسب، بل لمعركة يزداد فيها الأعداء قدرة مجدّداً. يبدو أن النظام يعتقد أن الدوائر الموالية لا خيار لها سوى الولاء والمضي في القتال، غير أن هامش المناورة أمامه يضيق. فهو يدرك أن القبول بإجراء الإصلاحات الحقيقية سيضعه على الدرب نحو تفكيك نفسه، بيد أن إصراره على اتّباع نهج عسكري حصراً يقرِّبه من النقطة التي لا يمتلك فيها حاضنة سياسية أو اجتماعية محلية. هذه هي نقطة ضعفه الكبرى.