< نادية الملاح شاعرة بحرينية تتعاطى مع الكتابة بغزارة وعناية تامة. الحب عندها يستحيل إلى أجنحة تطلق الحياة إلى أبعد مدى، والصبح الحقيقي تراه يكمن في الروح، ويشرق مع لحظات السعادة الحقيقية التي تزنها بمقاييس الأنفاس والنبض. صدر لنادية الملاح ديوان «مرثية راقصة» هذا العام، وكانت نجمة في برنامج «أمير الشعراء»، كما أنها كانت ضيفة مهرجان المربد الذي انتهى قبل أيام. «الحياة» التقت الشاعرة، وكان لها معها الحوار الآتي: > «أحبك جداً.. وأقسم أني.. سأبقى لعشقك نبضاً وماء». تأكيد كهذا ألا يقيد القلب؟ أم أنك تدعمين قول باولو كيلو: الحب دوماً جديد؟ - بل أدعم يقيني بأن الحب تجدد وتدفق وعطاء، فالنبض والماء وريدان لا غنى عنهما لضمان البقاء، هو إذن ليس قيداً، بل جناح يطلق الحياة إلى أبعد مدى. > يقول شارلي شابلن: يوم بلا ضحك هو يوم ضائع. وأنت تقولين: أمضي صباحاً باسماً.. وخطوتي.. على امتداد الشمس ترسم الدروب. هل مازالت نادية تستقبل الصبح كما ينبغي؟ وإلى أين تقودها الدروب؟ - ربما علي أن أقول هنا إن الصباح الباسم في هذا النص تحديداً هو صباح صوري مادي يشبه صباحات الناس كافة، ينحصر في ضوء وبضع قطيرات ندى لا تلبثُ أن تتبخر بفعل الحرقة التي تبددها فيها الشمس، بينما الصبح الحقيقي بالنسبة لي هو صبح يكمن في الروح، وفي ضوئها الخاص الذي يتكوثر بفعل اللحظات المقتنصة من بين مخالب الواقع، الصبح لا يشرق عندي بفعل الشمس أو خيوط الضوء، بل بلحظات السعادة الحقيقية التي أزنها بمقياس أنفاسي والنبض، ولاسيما إن أخذنا في الاعتبار أن النص هنا إنما يمثل مكابرة وعنفواناً واضحين، حين يقول الإنسان بنبرة ألم: أنا بخير... فذاك لا يعني إلا أنه ليس كذلك فعلاً، وربما يحمل في طيه رجاء من قدره أن يتركه بسلام كي يكون بخير. > في قصيدة «إلى رجلي» هناك استسلام كامل من المرأة للرجل وتغيب الندية التي تجعل من الحب قيمة أسمى بين شريكين، كيف ترين ذلك؟ - استسلامٌ كامل من المرأة للرجل؟ لست أراه كذلك أبداً، لا بد لنا أولاً من أن نتفق على أن للحب قيمه وأسسه التي تختلف عن أية حال إنسانية أخرى، لن أقول إنه لا مكان للكبرياء، ولكني سأجزم بأن من حق الحب علينا أن نرخي العنان إن تصادم كبرياء الطرفين، وللمناسبة، وجدتُ الملحوظة ذاتها من أغلبية من قرؤوا النص أو سمعوه، حتى إن بعضهم قال: لماذا هذا التنازل؟ إنه لا يستحق؟! والمقصود هو المعشوق، لكني أصر على أنه يستحق، فالإنسان الذي يختاره القلب ويمتزج به وفيه، لا يمكن أن يكون إلا صاحب حق، حتى في النغمة الصادرة عن النبض. في الحب يا أستاذي تسقط كثير من القلاع، كي تضمن للعشق حماية ذاتية أكبر. > بينما في قصيدة «رقصة على بوابة النزيف» تتظاهرين بابتسامة غير حقيقية لتقولي للحياة إنك بخير. يذهب تولستوي ليقول لنا: إن غاية الحياة هي الحصول على السعادة وقد أرادها الله لنا، فمن يطلبها يتمم إرادة الله؛ فلماذا لا تذهبين عنوة إلى السعادة بوجه حقيقي؟! - السعادة الحقيقية لا تنتظر أن نذهب إليها، أو نبحث عنها، لأنها في داخلنا وحدنا، نحن من يخلقها ويخلّقها، يرسمُ ملامحها كما يحلم ويتمنى، نعم في «قصة على بوابة النزيف» أتظاهر بالابتسام، وأقف في وجه الحياة، وكل ما يمكن أن يؤلمني لأقول إني بخير؛ إيماناً مني بفاعلية الإيحاء، وبحقي في رسم قدري وتشكيله، وبقدرتي على تحريك جزيئات كل ما حولي لأكوّنني كما أريد، أقدارنا نحن من يصنعها وحين أقول إني بخير فلا بد من أني سأكون بخير، وهذا هو وجهي الحقيقي المبتسم دائماً. > في قصيدة «كفتان» تتسائلين كيف يجتمع الأضداد. هل اجتمعا ذات حلم، نقيضان معاً وكيف؟ - الحياة تضج بالأضداد، وكثيراً ما نقع وسط رحاها، أحياناً نكون قيد الأخيار، وفي أحايين أخرى نجدنا في زوبعة تلك النقائض لا نملك لأنفسنا من شيء، لن آتي على ذكر أضداد النفس، لكني سأذكر ضدين اجتمعا ذات واقع لا حلماً، واقع آلمني حينها وما يزال، ربما... هي لحظة فقد والدي رحمه الله التي تصادفت مع لحظة ولادة ديواني الأول، كنتُ سعيدة أرتب سيناريو إهدائه إلى يديه اللتين كثيراً ما ربتتا على روحي ورأسي، لكني شعرت بحرقة تلك السعادة المنثلمة المجروحة حين سبقني الموت إليه فاقتنصه. ما أكثر أضداد ومتناقضات الحياة، بل ما أكثر الأضداد في داخلنا... سأقسم عمري على وردتين.. وأغرسني بين حاء وباء. من حال اليأس إلى الإيمان المطلق بالحب؛ هل تؤمنين بدور ليلى الحبيبة وقيس العاشق في زمن كهذا؟ - لكل زمن قيسه وليلاه، فالحب لا يعترف بالزمن ولا بالأسماء ولا حتى بالحدود والمساحات، يتجذر في الروح فيورق ويثمر ويشتد عوده حتى يخترق غيم الحياة ويتغلب عليه، أنا أؤمن جداً جداً بالعشق السامي اللامتناهي، بوصفه شعوراً يحملُ الإنسان ذكراً كان أم أنثى من حال الذاتية المطلقة إلى حال الامتزاج بالآخر، أذكر عبارة لابن عربي يقول فيها «والحب له الحركة في المحب» وهذا ما أراه في الحب فعلاً، حين تكون المشاعر صادقة خالصة، يتجرد الإنسان من أنانيته وذاتيته، فتصبح كل أفعاله وكلامه وتحركاته مستندة إلى من يحب، يستحضره حتى في أكثر اللحظات خصوصية، فلا تنمو مشاعره ولا تتقلب أنفاسه بعيداً عنه، لست ليلى ولا جولييت، ولا حتى شهرزاد، لكني مؤمنة بالعشق الذي يجمع كل أولئك معاً ويبتكر لنفسه كينونة أخرى مختلفة، لا بد للعاشقة من أن تكون كل النساء في آن، إن آمنت فعلاً بعشقها ومعشوقها. > لديك قدرية لا حد لها، تقولين: لكنني لله أسلم مهجتي.. وكما يشاء يديرني! أين روح الشاعر الحية التي تخلق قدرها ذات الروح العصية على الموت؟! - لا أتصور أن إيماناً من هذا النوع يتعارض مع الروح الشاعرة المنطلقة المحلقة الخلاقة، بيد أني أرى أن للنفس لحظات ضعف قد تهوي بها إلى سابع أرض، ولا فرق في ذلك بين الشاعر أو أي شخص آخر، بل إن الشاعر ربما يكون أكثر عرضة لها من غيره، لشدة حساسيته الروحية لما حوله، ليس يأساً، لكنه تمسك بالإيمان المطلق بالله بغية الخروج من صومعة الجراح. > شيئاً فشيئاً تخلع قصيدتك معطفها الأسود الطويل وتتجدد من خلال قصيدة النثر ذات الألوان المتعددة كربيع العمر البهي في نصوصك أخيراً، كيف وجدت روحك بها؟ - لا أذكر أني قيدت قلمي يوماً ما، أكتب النثر منذ أمد، وهو متلازم مع كتابة الشعر، فاللحظة تفرضُ لون الكتابة، والعنان فيها متروك للحرف أنى شاء أن يتجه، مع تحفظي على مسمى «قصيدة النثر» الذي يرى فيه كثيرون حال تخلف عندي، لكني على قناعة تامة بأن هناك لوح زجاج بين فني الشعر والنثر، كلاهما له خصوصيته ورونقه وبهاؤه، لكن الخلط بينهما مازال لا يجد القبول عندي. في النثر ربما يكون الفضاء أكثر اتساعاً من الشعر، حيث التجرد من قولية النص، لكنه يستند إلى الشعر في كثير من حيثياته ودقائقه، أنا في كليهما نادية، فلا ينتقص النثر من طاقة الكاتب، ولا يتوّجه الشعر، لأن المعول في نظري على جودة النص لغة وشعوراً وصياغة وجمالاً. > في قصيدة «قارئة الفنجان» كأنك كتبتها تحت تأثير قصيدة نزار في اللاوعي؟ - من يقرأ «قارئة الفنجان» سيجد أنها لا تشبه النزارية إلا في العنوان فحسب، ليس التأثر بشاعر ما تهمة لأدفعها عني، لكني أدرك أن لي نفساً وخطاً مختلفين عن نزار أو غيره، مقاطع قارئة الفنجان في «مرثية راقصة» تبدو كسلسلة متواصلة وكأنها سيرة مقتضبة، مجموعة من المواقف واللحظات يختزلها فنجان لا يمكنه أن ينطق أبداً بحقيقة الروح. > ماذا بعد «مرثية راقصة»، عرفنا أنك تعملين على رواية، ماذا بإمكانك أن تقولي عنها؟ - لم أخطط للمرثية كي أرتب ما بعدها، لكني في طور الإعداد لإصدار نثري، هذا إن أزحت من أمامي إصداراً سبق لي إعداده وتأجيله، وهو نثري أيضاً، ربما يصح عليه مسمى «الملحمة» حوارية نثرية بمسمى «حين لا تصمتُ شهرزاد»... هي مؤجلة إلى زمن غير معلوم. أما الرواية فهي ما تؤرقني خلال هذه الفترة في محاولة لإقفالها، هي عمل يتجاوز خط الرواية بعض الشيء إلى محاولة بحث العلاقات الإنسانية بين الشرق والغرب، لن أذكر أي شرق أو أي غرب الآن كي لا أحرق موضوعها.