راح يتذكر منذ متى قرأ خبراً مفرحاً مبهجا ساراً. فتش في تلافيف عقله ودماغه وانحدر إلى سني الطفولة المتأخرة فلم يجد شيئاً إلاّ تلك الظلال التي تلقيها مقالات، أو خطب حماسية، تمجد ماضيه، وواقعه وتمنيه بمستقبل يشعر فيه بأنه عزيز في أمة عزيزة.. غير أنه كبر، وكبرت مع أمته النكسات، والتراجعات والخيبات، وكأنه خلق في عالم قدره النكبات والهزائم.. تمنى أن يتحرر من واقعه، وأن يتحرر من همه، هذا الذي يلازمه كعاهة مستديمة لا يمكن إخفاؤها أو الفرار منها. تمنى أن ينسلّ بعقله وجسده. وأن يفصل ذاته عن واقعه فيعيش تلك "البوهيمية" التي يعيشها بعض أصدقائه، والذين يقابلون أشجانه، وهمومه، وهموم أمته بالسخرية والهزء.!! بل ربما رموه بالسوداوية والقنوط. هو يعرف في قرارة نفسه أن إنساناً سوياً لن يرقص في مذبحة.. أقسم مع نفسه صادقاً أنه لو يمتلك حرية التخلص من وجعه هذا لنسفه وانجرد منه. ولكن أين أو أنى له هذا؟ كم هم سعداء ومحظوظون أولئك الذين يغيرون مشاعرهم، وأحاسيسهم كما يغيرون ملابسهم، أو أحذيتهم..!! أين له ذلك المزاج الطفولي الذي يحول اللحظات القاتمة، إلى ومضات من الإشراق والسعادة؟ عذاباته تتنامى في صدره كما تتنامى مخالب صقر جارح، أو أشواك شجرة سامة.. سأل نفسه بجدية.. هل يستطيع الإنسان أن يقلب حياته؟ السؤال ليس من تلك الأسئلة الطارئة التي قد يتسلى بها الإنسان في لحظة ما لسبب ما ثم ينساها. بل لقد ألقى السؤال في ذهنه مشروعاً حقيقياً للتغيير. لنبدأ صفحة جديدة - كم سمع هذه الكلمة والتي تعبر ذهنه كملايين الكلمات التي تأتي وتذهب، فلا ينظر إليها إلاّ كعبارة سردية في قاموس حضارته أو ثقافته التي تتردد بمناسبة وبدون مناسبة، بمعنى أن ليس لها جدة أو وقوف على بوابة الذهن وإنما هي تأتي وتذهب كحبات الغبار التي تمور بها رياح الصحراء كجزء من موجوداتها ونظامها الأزلي. لكنه وقف أمام هذه الكلمة ونهجها وحاول نحتها في عقله: لنبدأ صفحة جديدة. لأقم بعملية نقد جذرية. لأزحزح حجر الزاوية كي تتهاوى بقية الأحجار. وأبدأ أصنع لنفسي نهجاً آخر. طريقاً آخر. إحساساً آخر. لأحاول أن أعيش بتلك الحيادية، حيادية من لا يعنيه شيء في هذا الوجود إلاّ ذاته. لأفكر في ذاتي. لأطل مرة واحدة على أعماقي. أمضيت جلّ عمري بعيداً عن قلبي، وجثمت عليه أغربة الخوف البشعة. وكان ذلك بإرادتي واختياري. كان بمقدوري أن أكون بوهيمياً يشع قلبي بالبهجة والحبور والفرح بلا مواجع هذا الكون، وهل يشاكس في مشاكل الكون إلاّ مكابر؟! صدر الكون أوسع من أن يضيق فلماذا لا أتعامل معه بتوافق ورضاً وقبول؟ الحرية الحقيقية أن تعيش أنت لا أن يعيش الكون في داخلك، أو لا يعيش الآخرون في داخلك ما داخلك ما دام رأسك سليماً، ونفسك ذات شهية للفرح فلماذا لا تشبعها فرحاً ومرحاً. فليذبح من ينذبح. وليمت من يموت. وليحفر نفق. ولتبنَ مستعمرة. ولتقطع أرض. ولتصنع مكائد. وليزيف التاريخ.. ولتشب الحرائق ما دام أنها لم تصل الى ثوبك.. ولينقش البساط الفارسي بدماء أطفال العرب، منسوجاً مفصلا وفق إستراتيجية الخارطة الجديدة التي ستجعل منه برزخا يفصل بين قوى العرب.. ولتسفك الدماء، وتتصاعد أدخنة أسلحة المؤامرات، في الساحات والميادين. حيث تتغلب لغة الرصاص على لغة العدل والحق.. وليظهر الأفاقون والكذابون والنفعيون... ولتظهر القطط المرباة على القنوات الفضائية.. فتموء بما تشاء.!! ماذا يهمني؟ لماذا أحترق؟ لننس ولنترك الريح تدفع السفائن كما تشاء. أستلقى على فراشه واسترخى في هدوء ونعومة بال. طاب خاطره لهذه المحاورة الأولى أو المصارحة الأولى مع الذات. وراح يكرر: الواقع هو الواقع. لو كان بوسعي تغييره لغيرته. كيف لي أن أغير واقعاً لا يتغير؟! هذا عبث، وهذه مكابرة. وهذه سباحة ضد التيار. لا بد أن أسبح مع التيار ككل أولئك السابحين. لكنه فجأة شعر بوخزة كالطعنة فقفز مرتبكا كالمذنب خائفاً من أن يكون قد صدق وهمه.