لماذا لا نبني مدناً جديدة، تكون أكثر ذكاء، وأقل تكلفة، وأكثر انضباطاً، وأعلى إنتاجاً، وأجود حياةً؟ لماذا لا نشيّد مدناً جديدة تكون فيها دكتاتورية القانون تامة، فلا يستطيع أحد أن يقطع الإشارة دون أن يفلت من العقاب، ولا أن يسرق دون أن تلتقط كاميرا هنا أو هناك سكناته وحركاته وسوء أفعاله؟ لماذا لا نقيم مدناً جديدة تكون فيها الحفريات مستحيلة بسبب وجود أنفاق للمرافق، ويتعذر حدوث تسرب مياه شرب أو ري أو صرف فيها؛ بسبب انتشار المجسات في طول شبكة المياه وعرضها، فما عسى أن تتسرب قطرة ماء حتى تنشر تلك المجسات الخبر، لتهرع فرق الإصلاح للتعامل مع التسرب وتقمعه؟ ولماذا لا نستحدث مدناً رفيقة للبيئة، تمنح سكانها هواء نظيفاً، وتستخدم بدائل الطاقة التي لا تبعث غازات دفيئة، لا سيما وأن شمسنا كريمة معطاءة؟ بل لماذا لا نجعل مدننا القائمة أقل غباء، بأن نحد مما تهدره من كل شيء دون اكتراث، حتى لتكاد أرتال قماماتها تنافس إنتاج أعظم مصانعها كماً ووزناً؟ فمدننا تستهلك كهرباء أكثر مما ينبغي، وينافس ما يتسرب من شبكات مياهها ما يستخدم فعلياً، وتعاني من اختناقات سير وتعطل؛ بسبب عدم احترام قواعد المرور؟! قد يظن البعض أن بناء مدن جديدة مكلف، لكننا بنينا مدناً عندما كنا أقرب للفقر منا للثراء! فمتى بنينا الدمام والخبر؟ وها هما أصبحتا حاضرتين عظيمتين واشتبكتا مع سيهات والقطيف والظهران والثقبة، فأصبحت ثالث أكبر تجمع حضري في البلاد. ثم أننا في ماضي الأيام فكرنا في المدن الجديدة ليس كمستوطنات نخبوية، بل كأماكن تنطلق منها حياة جديدة لمن يرغب من السعوديين. وهذا لا يتعارض مع المدن الاقتصادية قيد التأسيس، مثل: مدينة الملك عبدالله الاقتصادية، أو مدينة جازان الاقتصادية، أو مدينة حائل الاقتصادية، أو مدينة وعد الشمال، إلا من حيث أنها مدنٌ عامة، وليست بالضرورة قامت مرتكزة على مشروع اقتصادي من نوع أو آخر. لعلنا أمام مفارقة بوسعنا أن نستخرج منها مبادرة نقننها في استراتيجية، فنصنع منها خطة ونحولها لبرنامج لإحياء المدن. الفكرة أن بداياتنا النفطية استوجبت بناء مدن جديدة، والآن بداياتنا "ما بعد النفطية" تتطلب بناء مدنا أقل استهلاكا للموارد وأكثر توظيفاً منتجاً. هناك من لا يتحمس كثيراً لفكرة بناء مدن جديدة، على الرغم من أن تجربتنا ثرية في هذا المجال، وهي متنوعة كذلك، فالمدن الثلاث الدمام والخبر والظهران مدن عامة، في حين أن مدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين مدينتان متخصصتان. ومؤخراً تطورت تلك الخبرة بمبادرة سعت لإطلاق مدن افتصادية، تعتمد على توليد القيمة والفرص الوظيفية الناتجة عن أنشطة غير نفطية. وبالقطع مرت تجربة المدن الاقتصادية بتحديات عاصفة، تطلبت إعادة النظر في كيفية تنفيذ المبادرة، وليس في المبادرة بحد ذاتها، إذ أن إطلاق مدن اقتصادية جديدة مطلب ضروري؛ لتنويع الاقتصاد الوطني. الأمر المشجع أن التجارب تضعنا جميعاً على المحك، والاصرار على النجاح دفع مدينة الملك عبدالله الاقتصادية لتعيد صياغة استراتيجيتها ومنهجية التنفيذ، بأسلوب مختلف نوعاً ينطلق من القاع (من السوق لاشباع الطلب)، وهكذا نرى الميناء يعمل بنشاط، ونجد مواطنين من رابغ يعملون هناك، كما أن ثلاثين شركة مقرها المدينة تعرض حالياً مئات فرص العمل لشبابنا، وليس عشرات آلاف الفرص، لكن لنتذكر أن بداية الغيث قطرة، نحن في أمس الحاجة لها حينما ينقطع "انهمار" النفط أو يخبو سعره وتقل إيراداته.