بعد خمس سنوات على الانهيار المالي المعروف بـ «الركود الكبير» منتصف أيلول (سبتمبر) 2008، لم تتوقف محاولات اقتصاديين ومحللين أميركيين لفهم ما حدث ومحاولة تقديم النصائح لأصحاب القرار لتفادي انهيارات اقتصادية مماثلة في المستقبل. ولكن المشكلة تكمن في أن معظم الخبراء هم من «العقائديين» في نظرتهم إلى الاقتصاد، فاليسار الأميركي يعتبر أن سبب الانهيار كان إلغاء الكونغرس التشريعات المالية، وأن ذلك امتزج مع جشع المستثمرين والعاملين في قطاع المال والتسليف، ما أدى إلى نشوء فقاعة عقارية انفجرت وتسببت بنتائج كارثية. أما اليمين، فيرى أن سبب الانهيار تدخل الحكومة في الدورة الاقتصادية، خصوصاً بعدما عمدت إلى إنشاء وكالات فيديرالية قدمت كفالات لقروض شراء منازل لأشخاص كان واضحاً انعدام قدرتهم على التسديد. ولكن دراسة قدمها ثلاثة اقتصاديين أميركيين من جامعات «برينستون» و «آن اربور» و «دارتموث» في آذار (مارس) الماضي، فندت فكرة «جشع» المستثمرين والمصرفيين، وأظهرت أنهم عمدوا إلى الاستدانة ومعظمهم تملك منازل باهظة الثمن، ما يؤشر إلى أنهم لم يتوقعوا أن السوق العقارية ستنهار يوماً ما. وكما معظم الأميركيين، اعتقد المصرفيون أن أسعار العقارات ستستمر في الارتفاع، ما دفعهم ليس فقط إلى حض زبائنهم على المجازفة في سوق العقارات، بل إلى المجازفة بأموالهم الخاصة. وكبحت الحكومة الفيديرالية، بسبب «الركود الكبير»، جماح المجازفين، فأصدر الكونغرس قانون «دود - فرانك» الذي وضع ضوابط على الاستدانة ومنع المصارف من المضاربة المالية من خلال استخدام مدخرات المودعين. وفي هذه الأثناء، تولّد اقتناع لدى معظم الاقتصاديين بأن النمو الأميركي، على إثر الركود، جاء متعثراً بسبب المديونية الهائلة التي راكمها الأميركيون، مشيرين إلى أن النمو سيعاود الارتفاع ما إن يقلص المستهلكون ديونهم. نمو متواضع رغم تراجع الدين وتراجع الدين الخاص الأميركي خلال السنوات الخمس الماضية من 15 تريليون دولار إلى أقل من 12 تريليوناً، نتيجة تخلف كثر عن التسديد فسقطت ديونهم، أو بسبب تقليص النفقات والمديونية. ولكن على رغم انخفاض الدين الخاص بقي النمو منقبضاً نسبياً، وبقي الخوف مسيطراً، لا على المستهلكين فحسب، بل على الشركات بمختلف أحجامها، كما على المستثمرين عموماً. وصدرت كتب عدة منذ الأزمة حاولت الإضاءة أكثر وفهم أزمة التعافي المتعثر للنمو الأميركي. ومن اليسار، برز كلايد بريستويز، الذي عمل مساعداً لوزير التجارة في عهد الرئيس الراحل رونالد ريغان. وأصدر كتاباً حمل عنوان «خيانة البحبوحة الأميركية»، وحمل فيه بشدة على سماح الحكومة الفيديرالية بانتقال المصانع والتكنولوجيا التي ترافقها إلى الصين، واعتماد الاقتصاد الأميركي بدلاً من ذلك على الخدمات، خصوصاً المصرفية. وأشار بريستويتز إلى أن من أسباب أفول الإمبراطورية البريطانية تضحية لندن بقطاعاتها الاقتصادية في سبيل الحفاظ على قطاعها المصرفي، الذي يعتمد على المضاربات وهو مضطرب بذاته. وساهم المسؤول السابق وكثر يشاركونه الرأي، في دفع الرئيس باراك أوباما إلى إعلان مضاعفة الصادرات الصناعية الأميركية مع نهاية ولايته الأولى، وفعلاً ارتفعت بين عامي 2008 و2012 بنسبة 18 في المئة إلى 1.550 تريليون دولار. وساهم هذا الارتفاع في تقليص العجز التجاري وخلق وظائف جديدة، ولكنه لم يعد بالاقتصاد إلى سابق عهده، إذ بلغ معدل النمو خلال السنوات الخمس الماضية 0.58 في المئة، مقارنة بـ2.2 في المئة بين عامي 2003 و2007. ومن اليمين، أصدر آرثر لافر، صاحب نظرية «منحنى لافر»، كتاباً بعنوان «نهاية البحبوحة»، حمّل فيه المسؤولية لأوباما، معتبراً أن ما يعيق عودة الاقتصاد إلى النمو هو مزيج من الضرائب المرتفعة والإنفاق الحكومي. وكرر دعوة اليمين إلى خفض الضرائب وتقليص إنفاق الحكومة وحجمها وإلغاء تشريعات مثل قانون «دود - فرانك» وقانون الرعاية الصحية، الذي أقره أوباما عام 2009، معتبراً أن هذه التشريعات تعيق «اقتصاد السوق» والمال الخاص وتؤدي إلى تباطؤ الاقتصاد. وعاد بعض الاقتصاديين الأميركيين إلى نظرية «الثروة، والثروة الافتراضية، والدين»، وهي عنوان كتاب أصدره الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء فريدريك سودي عام 1926، ومبنية على رفض اعتبار المال كأحد الأصول، بل أن الثروة الحقيقية ترتبط بإنتاج فعلي، أما المال، فهو كمية مفترضة تكفلها الدولة. وقد تنطبق نظرية سودي إلى حد ما على مشكلة «الركود الكبير»، فأسعار العقارات في العالم ارتفعت بسبب المضاربات أكثر منها بسبب حاجة السوق الفعلية، ما يعني أن الثروة التي تولدت عن المضاربة كانت افتراضية، وعندما توقفت المضاربة، وجد المعنيون أن ثرواتهم كانت عبارة عن سراب، ما دفع الحكومات الغربية، خصوصاً الأميركية، إلى الإسراع في طباعة النقد وتقديمه بفوائد منخفضة لتحويل الثروة الافتراضية إلى واقع، مع ما يعني ذلك من تضخم يبدو أنه ما زال مؤجلاً بسبب تباطؤ النمو. ورأى المعلق روبرت سامويلسون في صحيفة «واشنطن بوست» أن «الاقتصاد الأميركي ليس مشلولاً»، كما أنه ليس أحسن حالاته، بل ربما بسبب التغيير في الثقة ونمط تصرف أصحاب المال، لا يمكن للنماذج المالية المبنية على أنماط قديمة إلا أن تفترض نسب نمو أعلى من الواقع». وقد يكون سامويلسون على حق، فالنماذج الاقتصادية والنظريات المعروفة قد لا تكون مناسبة لاقتصاد معولم ومتقلب، وربما حان الوقت لأسس جديدة، منها أدوات لقياس النمو، في وقت أصبح رأس المال عابراً للقارات أكثر كثيراً من قبل.