يقول إبراهيم فتحي في معرض كلامه عن القصة القصيرة عند نجيب محفوظ: «النوع الأدبي عند محفوظ شكل مميز من الرؤية، أي طريقة كلية لتخيل وتصور جوانب معينة من الواقع الإنساني». في كلام إبراهيم فتحي تأشير مميز للرؤية القصصية لدى محفوظ بأنها كلية، وهو ما يحدد غايتي التكثيف وقوة الدلالة اللتين تسمان السرد القصصي وتميزانه، باعتبار: ضيق العبارة واتساع الرؤية. قد يشير كلام (فتحي) إلى قوة التأثيرات البلاغية في تمييز الشكل القصصي. ولكنها إشارة لا تنشغل بطول النص أو قصره، ولا بعدد كلماته أو أسطره، فتعبر فوق كل هذا سريعاً لتصل إلى وجهة نظر الكاتب وزاويته التي يتناول بها الموضوع، إنها آلية تخضع لعمليات تقنية بالغة التعقيد. ولعل هذا التركيب الدقيق والخاص جداً بين الشكل والموضوع، هو المسؤول عن طاقة الشعرية التي تنزع إليها القصة القصيرة. إنها، كما يصفها الصيني (لوتشيو): إمكانية أن تقبض على السماء والأرض في قبضة واحدة. ما سبق، مقاربة لا ترغب في استقصاء تعريف مانع جامع للقصة القصيرة بقدر ما تسعى إلى فهمها بوصفها طريقة من طرائق السرد، وليست نوعاً متفرداً بخواص إكلينيكية. أي أنها تميز نفسها عبر عمليات من التفاعل الحيوي بين عناصر السرد وخصائصه الداخلية، إذ يمكن للكاتب أن يختار ما يراه مناسباً من عناصر السرد للتعبير عن المعاني التي يرغب في نقلها إلينا. وفي ضوء هذا، فإن محاولات تمييز القصة القصيرة جداً، لا تعني أكثر من التفعيل التقني لعناصر السرد حتى تلك التي نجدها في رواية، أو في قصة طويلة. فالقصة القصيرة جداً لا تستغني عن الحدث ولكنها تحيل إليه، ولا تتخلص من الشخصية ولكنها قد ترمز إليها، ولا تستبعد الزمن ولكنها قد تضمره. باختصار، فبلاغة القصة القصيرة جداً هي التكثيف ووسيلتها في ذلك اللغة. شريطة أن تقف اللغة على اللحظة الحرجة التي تتحول فيها من التصوير إلى الإخبار. فإذ كان الإبداع الأدبي هو نوع من التفكير بالصور. فإن اللغة وظيفتها أن تشير ولا تقود، ترمز ولا تفصح، تدل ولا تعني. فالتكثيف الذي نعنيه هنا، له معنى تقني، ينبغي أن يظل محسوباً بدقة لئلا يجور على الطبيعة التخيلية للنص، فيتحول إلى معنى مجرد يُخبر به القارئ من دون احترام لحقه في إنتاج الرسالة المضفورة في شبكة العلاقات النصية. يهمنا أن نسجل هنا، أنه من خلال خبرتنا القرائية والكتابية للقصة القصيرة جداً، لاحظنا أن كثيراً من النصوص تتجاوز بالتجريد حد المرونة السردية، فتنتهي إلى بناء إخباري مباشر فقير الدلالة. فالقصة القصيرة جداً، هي نتاج تطور تقني لفن حديث هو فن القصة القصيرة، ولعل الرؤية التاريخية لهذا الفن، توقفنا على تحولات مثيرة له كماً وكيفاً، وهي تحولات تناسبت مع ظروف نشأته، التي بدت في أحد تصوراتها، كما لو كانت أحد طرائق التعبير الإنساني لتقويض السرديات الكبرى ذات الطابع الملحمي، وحيث كانت الملحمة طريقة الإنسان في تفسير العالم وفهم وجوده. من المعروف أن الرواية كانت - في بدايتها - متأثرة إلى حد كبير بالنفس الملحمي في السرد، ثم جاءت القصة القصيرة، في ما يشبه الثورة أو التمرد الداخلي على الأشكال الأولى لطرائق السرد التي حافظت على مجموعة القيم المركزية، وجسدت صورة المجتمعات البطريركية. فمن المعروف أن الرواية في أوروبا سبقت القصة في الظهور إلى الحياة بأكثر من قرن، يعني هذا أن الرواية كانت قد استقرت كشكل أدبي ونضجت في بنائها وعناصرها على نحو يمنحها حق الوجود المكتمل والسابق على القصة. «لقد وصلت الرواية إلى وعي ذاتها متأخرة». (3) في حين امتلكت القصة القصيرة هذا الوعي مبكراً، بل إنه كان مضمراً في أسباب نشأتها الأولى. ومن ثم يمكن القول إن القصة القصيرة حملت المشروع الحداثي للإنسان بوصفه ذاتاً مفردة ومستقلة عن الطبيعة، وجسّدت بشكل جمالي رغبته في موت الميتافيزيقي (ذلك الرجل النبيل بشكل مطلق)، ومن ثم فالرؤى الكلية التي يتحدث عنها إبراهيم فتحي تتجه بحسب كلامه، إلى تخيل أو تصور جوانب معينة من الواقع الإنساني. أي الواقع المعيش - فعلاً - وليس ذلك الملتبس بالميتافيزيقيا. بما يعني أن الرؤية الكلية هنا ليست تعبيراً عن اتساع تاريخي للوجود، بل هي ذات طابع مجهري، أي أنها كلية في الوعي بالتفاصيل الصغيرة للواقع. فلا تنفيهما لصالح المطلق والمجرد والمثالي. إنها نوع من العزل والفحص الدقيق للمعنى، ثم التعبير عنه بكثافة مميزة تعكس - في ذاتها - بلاغة السرد القصصي، واختلافها عن السرد الروائي. ومن ثم فجوهر الاختلاف بينهما تقني. أي في طرائق وأساليب السرد الذي يؤدي إلى رؤية مجهرية أو مقطعية تهتم بالواقع بدلاً من الرؤية التاريخية. ومثال ذلك: إن نظرتنا الكلية لشجرة قد تحيلنا إلى تاريخ يشتبك مع الميتافيزيقي، في علاقتها بالطبيعة (بالأرض والسماء)، ويدخلها في تصور عام عما هو شجرة، لكن النظرة المجهرية لمقطع عرضي فيها يوقفنا على تفاصيل أكثر فاعلية ودقة، وفي الوقت نفسه توقفنا على التاريخ الخاص لهذه الشجرة بالذات. هكذا بدت القصة القصيرة راغبة في اختبار العلاقة بين الإنسان وواقعه المعيش، أكثر مما هي راغبة في اختبار علاقته بالمطلقات. على هذا النحو، لم تكن القصة مجرد فن سردي جديد بقدر ما كانت تجسيداً جمالياً لنمط جديد من المعرفة أطلقنا عليها الحداثة. زاوية جديدة للنظر إلى الإنسان والتاريخ والحياة على نحو مميز. فامتلكت - منذ البداية - قدرتها على تجاوز الحدود ومخاتلة السلطات الثقافية والمركزيات الفكرية، فضمنت لنفسها جمهوراً - من الكتاب والقراء - مختلفاً إلى حد كبير عن جمهور المدفأة، إن جمهور القصة القصيرة يتشظى في أروقة الحياة اليومية لمجتمع المدينة: في المصانع والمقاهي والمنتديات الصغيرة والتجمعات السياسية المحظورة، جمهور راح ينظر للقصة القصيرة نظرته إلى مشروع ثقافي وتنموي مرتبط بالأفكار الطليعية التحررية والإنسانية الكبرى، متوافقاً مع صعود مثير للطبقات الهامشية: العمال والنساء والأقليات العرقية والدينية التي كانت في حاجة إلى أشكال جديدة من التعبير السردي يمكن أن تعكس طوابع الحياة اليومية للمجتمعات الحديثة، ولا تحتاج إلى رجال عظام الشأن لكتابتها. أي أن القصة القصيرة ولاسيما القصيرة جداً، تخلصت من نخبويتها مبكراً، وأصبحت الآن، فناً ممكناً ومتاحاً، نراه على صفحات الصحف والإنترنت بغزارة، يكتبه الآلاف من غير المتخصصين أو الخبراء أو أصحاب الشهرة الأدبية، أقرب إلى رسائل دقيقة ومحددة، متخلصة من رياش اللغة وتشابك المعاني، ومن ثم فهي تستبدل بلاغة اللغة الموروثة عن السرد الشفهي بتقنيات وأساليب كتابية تستجيب لسطوة التكنولوجيا على مقدرات العصر الحديث. جسّدت القصة القصيرة نهوض الوعي التقني بالعالم، إنه وعي يسعى إلى التفكيك والتصنيف والعزل والنظر باعتبار كبير إلى التخصصات الدقيقة، ومن ذلك أنها عكست رغبة المبدع في هدم سلطة الشكل. الذي بدا مضللاً منمطاً لمضمون الرسالة، وبدا لنا، بهذا الوعي التقني، أننا نفهم الزمن، ليس بوصفه حركة خطية تنشد الاكتمال، بقدر ما هو مجموعة علاقات متشظية لحظية ومتلاشية وليست غائية. هكذا يمكن للقصة القصيرة أن تضمن فلسفتها الخاصة عن الزمن، وتضمره في شكلها ليعكس بلاغتها التي تقوم على الكثافة والدقة والرؤية المجهرية. ومن ناحية أخرى، فإن زمن كتابة النص القصصي القصير جداً، وارتهانه بدرجات متوهجة من الوعي الجمالي والانفعال بالمحفزات السردية وكثافة شحنات الشعور بها، فإن كل هذه مقومات، جعلت القصة كياناً جمالياً، وثيق الارتباط بالذات بما يدعم الرؤية الخاصة بالكاتب، وينحو به في اتجاه الشعور والانفعال، وربما لهذا الحضور الانفعالي والشعوري، تدخل القصة القصيرة جداً في مدار الشعر أو تقترب منه على نحو ما يرى بعض الباحثين فيها. * كاتب مصري.