استيقظتُ هذا الصباح مغمورة، بذلك السحر الممتلئ بدواخلي.. من الهدوء والسكينة.. لم أستطع في كثير من الأحيان الوصول إليه، رغم أن الليل لم يكن به ما يعكر الصفو.. ولم تكن تفاصيله هي ميراث اليوم التالي من الكآبة والألم.. البسطاء من الناس كانوا يقولون زمان.. دون أن يدخلوا في تفاصيلنا الموجعة.. ويعرفوا هذا المدمن المفردات اللاهثة لتفسير حدث نعبر به أحياناً.. (اللهم اجعله خيرا شيء ما كاتم على صدري.. أو بمعنى أن ذلك الشخص استيقظ من نومه شاعراً بضيق، وغثة) قبل أن تصلهم مفردة (كآبة).. كانت لديهم قدرة تحمل هائلة رغم مشقة الحياة.. وجروحها التي تظل زمناً طويلاً لا تلتئم، صعوبة الحياة اليومية، وقسوتها.. وشظف العيش.. وقلة المساحة الرحبة للمتعة.. وتلاشي الخصوصية لدى أفراد ذلك الزمن كان يزيد من آلامهم.. ويفيض الوجع داخلهم ولا مساحة للبوح.. سوى الدموع.. وهي نادرة في حضور الآخرين، من منطلق أن الحياة وجدت لنتعلمها.. مهما كانت تركة العذاب بها، فهي وبالذات المرأة تعرف أن هذه التركة ستؤول إليها. لم تكن جدتي «فاطمة» أو «ناظم حسين عقيل» تبحث عن الفرح، بقدر ما كانت تبحث عن يوم جميل يعبر، عن لحظة سعادة تعتقها من زمن مرير «رحمة الله عليها» كيف لا وهي التي تربي ثلاث بنات وولدين وزوجها غادرها متوفى وأكبر أطفالها في العاشرة وأصغرهم عمره شهور.. كانت أمي «زمزم» هي أصغر الأبناء وتزوجت من والدي «السيد» محمد في الثانية عشرة من عمرها.. ومنذ طفولتي كنت أرى جدتي وأسمع قصتها من أمي وخالاتي وكيف كافحت لتربي أطفالها، منذ السادسة من عمري بدأت أراقبها كعادتي، أو لعله داء الكتابة حل به مبكراً هذا الذي يأتي إلينا ولا نأتي إليه.. كنت أذهب إليها في منزلها الذي يسكن به خالي «حسن» معها الله يرحمه، وأجدها في غرفتها الصغيرة ساكنة هادئة مسترخية.. تتحرك في ذلك المنزل الصغير وكأنها الطيف الذي لا تشعر به، ولكن يحيلك جماله، ويلفحك إحساسه حتى تفيض من النشوة.. لم أكن استوعب ماذا يعني أن تترمل زوجة في من عمرها مثلاً؟ دون أي دخل يسندها؟ ماذا يعني أن تكون امرأة وحيدة مسؤولة عن عائلة في سني المبكرة؟ كل ما أعرفه أن جدتي يفرحني الذهاب إليها لأن وجهها سمح، ولأنها لا تخرج عن خط الجدات الطيبات في تقبل أحفادهن وعدم الصراخ عليهن. لم أر جدتي فاطمة يوماً زعلانة؟ أو تصرخ في أحد.. أو ترفع صوتها على أحد، رغم أن الحياة لا تخلو، ورغم أنها بعد ذلك أصبحت توزع وقتها بين جازان وجدة، والطائف عند من تفرق من الأبناء إلا أنها زرعت في داخلي سنابل خضراء من القدرة على الاسترخاء، ومواجهة تكاليف الحياة، وعدم الهروب منها، لفّتني عندما كبرت بحنين من الرضا عن الحياة، وبأقل ما أعطته إياها، كان حزنها أخضر اقرأه في عينيها، الملونة، وواقعها الذي لم نعرفه في يوم إلا ن حقبته الأولى مريرة، لكن هل قرأ أحدهم يوماً من أيامها التي لفها فيها طوفان الوجع، والكآبة، وما أكثرها من أيام.. رحمها الله وغفر لها.. خرجتُ عن سياق ما أردت طرحه في البداية وهو أنني استيقظت بطوفان من الهدوء، والسكينة، وفرح لا فضاءات له من الممكن أن يبتكر لي الطريق؟ لا يهم إن كان هذا الفرح مسببا أم لا؟ فما يعنيني هو انني ممتنة لهذا النهار، وأحمد رب العالمين على ما أنا عليه. وأعتذر للقارئ أن منحت جدتي سطوة الحضور في مقالي اليوم دون تخطيط، أو ترتيب، لأنني وجدتها أمامي فجأة، ويبدو أن الكتابة، هذا هو وجهها الحقيقي تسطو علينا دواخلنا، وإن بدأنا بفكرة ما، لكن وحدها جغرافية الداخل من يمشي، ويفرض سيطرته علينا..