بلغت البلادة السائدة في التداول العالمي أعلى مستوياتها. المثال الأحدث يتعلق باضطرار برنامج الأمم المتحدة للغذاء تجميد تقديماته للاجئين السوريين في دول الجوار لكانون الأول (ديسمبر) الجاري، ما يصيب أكثر من 1.7 مليون إنسان في لبنان والأردن وتركيا والعراق ومصر، لن يتمكنوا من شراء الأغذية من المحلات المحيطة بسكنهم بواسطة البطاقة الإلكترونية. سنفصّل أكثر: قررت هذه المنظمة، وهي الأكبر عالمياً في مجالها، أن تمنح اللاجئين بطاقات تسهيلاً للجانب اللوجيستي وتوفيراً لتكلفة عالية يفرضها التوزيع المباشر للغذاء (شراؤه ونقله وجيش الموظفين والمتطوعين اللازم لإيصاله إلى أصحابه). وأيضاً وثانياً حتى تترك للناس حرية تحديد احتياجاتهم (هذا على الأقل) بدل توزيع علب معدة سلفاً. وهناك ثالثاً غرض تنمية أواصر صلاتهم بمحيطهم الجديد، وإن الموقت (كما يؤمل). والأهم، أن يكون لوجود هؤلاء اللاجئين وجه آخر إيجابي، بالضد من وطأة عبئهم على البلد المضيف، إذ ينفقون فيه أموالاً مما يدعم اقتصاده. وهذا رابعاً وقد لا يكون أخيراً. ويقول مسؤولو البرنامج أنه أُنفق ما قيمته 800 مليون دولار داخل تلك البلدان المضيفة حتى الآن... كما يقولون إن النقص في موازنة هذا الشهر بلغ 64 مليون دولار، وأنه يمكن تفعيل البطاقات في شكل فوري، لحظة وصول الأموال المطلوبة إلى المنظمة. وهم يقولون أشياء أخرى عدة، منها أن برنامج المساعدات الذي يشرفون عليه سيتوقف كذلك قريباً، في شباط (فبراير) المقبل، في ما يخص النازحين السوريين داخل بلدهم، وهم حوالى ستة ملايين، ينال أربعة ملايين منهم مساعدات غذائية. فالمتوافر يكفي حتى ذلك التاريخ. وأن الـ125 مليون دولار التي منحتها مؤخراً واشنطن للبرنامج مخصصة في جزء منها (70 مليوناً) لتغطية عجز الشهر الفائت، تشرين الثاني (نوفمبر) في خصوص النازحين في دول المحيط، والباقي (55 مليوناً) لدعم برنامج توزيع الطعام على النازحين في بلدهم. وهذا بينما أبلغت الكويت الأمم المتحدة أنها لن تستضيف المؤتمر الثالث للمانحين لعدم وفاء الدول بالتزاماتها، إذ لم يُسدد إلا 35 في المئة مما تعهدت به. والتجميد ذاك ليس مفاجأة. فمنذ مطلع الصيف نبهت المنظمة الدولية إلى الوضع، وأطلقت عدة نداءات استغاثة... بلا طائل. وحين بدأت بخفض القيمة المقررة قبل ثلاثة أشهر، إلى النصف أو أكثر بحسب البلدان (خُفضت الحصة من 45 دولاراً شهرياً للفرد إلى 15 دولاراً في بعض الأماكن)، جعلت من ذلك إنذاراً مبكراً. وحين قالت إن «الإنسان قد يتجاهل المأوى والصحة والتعليم، ولكن الطعام ضرورة قصوى»، كانت تؤكد بديهيات يفترض أن من المخجل استشعار الحاجة للتذكير بها. كما ذكرت ببديهيات أخرى: هو فصل الشتاء، أي أن البرد قارس (نعم!) وأنها تمطر في الشتاء (هكذا والله قالوا)، وهذا ما يزيد من سوء وضع النازحين، ويؤذي في شكل خاص الأكثر الفئات هشاشة بينهم... وبينما تلتزم عدم التطرق إلى السياسة، اضطرت لذكر «التوترات» التي سيسببها تجميد هذه المساعدات للبلدان المضيفة نفسها، وهو لفظ مهذب يشير ليس فحسب إلى مزيد من تفشي العمالة في السوق السوداء (وهذه قالوها صراحة في تقريرهم)، ما يعني المزيد أيضاً من بطالة السكان الأصليين، علاوة على خطر الانفلات الأمني الذي يصاحب موجات العوز الشديد والمجاعة، وعلى تفاقم الإحساس بالعداوة تجاه هؤلاء الثقلاء، مصحوبة بمظاهر عنصرية بدائية متنوعة الدرجات يمكن ملاحظة وجودها تحت الرماد (وهذا استنتاج لمعنى «التوترات» تلك). وبالطبع، ليس هذا الملف وحيداً من نوعه. بل يهتم البرنامج بمصائب أقوام أخرى في العالم ومنها النازحون واللاجئون في كينيا من الصومال وجنوب السودان (500 ألف) خُفضت منذ أسبوعين المساعدات الغذائية المقدمة إليهم بسبب النقص في الأموال، بينما رفع الصليب الأحمر الدولي موازنته لعام 2015 بنسبة 25 في المئة تحسباً للحاجات المطروحة عليه. وذكرت منظمة برنامج الأغذية أنها لا يمكن أن تنقل بنوداً مالية من عنوان إلى آخر، لأن المساعدات «اسمية»، تصل إليها مرفقة بأوجه صرفها، ولأنه على أية حال، لا فائض ولا ترف، والكوارث في العالم تتعاظم. فمن لا تطيحه الحروب على أشكالها تفتك به الأوبئة، وآخر أمثلتها إيبولا، الذي تُرك ليتفاقم، ولعله ما كان ليواجَه أبداً لولا أن سهولة التنقل في العالم الحديث هددت بوفوده إلى البلدان «المتحضرة»، بدليل أن رد الفعل الأول اتجه لتطبيق إجراءات المنع من السفر لمواطني بلدان بعينها، ووقف رحلات الطيران منها وإليها، ووضع آلات باهظة الكلفة للكشف عن الإصابات في المطارات العالمية. وهذه كلها تقول أمرين، أولهما أنه كان بالإمكان ترك الأفارقة يفنون عن بكرة أبيهم لولا أن عدوى مرضهم بدأت تنتقل لسواهم، وثانيهما أن رد الفعل الطبيعي للسادة المتحضرين يميل إلى إنفاق أموال طائلة في تدابير «أنانية» (ولو غير فعالة)، هي أضعاف ما كان سيكلف الإسراع في إنشاء مستشفيات طوارئ ميدانية في بلدان الوباء نفسها (ما تمّ بعد ذلك) لمعالجة المصابين... حتى لو كانوا أفارقة أي «بشراً فائضين عن الحاجة» وفق أسس النظريات الاستعمارية التي لم تختف بعد! وسيلي كلام أكثر «سذاجة»، ويُقصد منه المقارنة وسؤال الممارسات: فقد نشرت المفوضية الأوروبية مؤخراً تقريراً يقول إن حجم الطعام المبذّر في دولها بلغ عام 2014 مئة مليون طن. بينما قالت منظمة الأغذية والزراعة (فاو) التابعة للأمم المتحدة إن ما قيمته ألف وعشرون بليون دولار! من الغذاء وحده، (لم نتكلم عن سائر الاستهلاك الكمالي) يُهدر سنوياً في بلدان أوروبا وأميركا الشمالية. ... والأكثر سذاجة أيضاً، يُقصد به سؤال الأولويات والجدوى: فقد أشار تقرير لمعهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام صدر في نيسان (أبريل) 2014، إلى أن الإنفاق العسكري العالمي في 2013 بلغ 1.75 تريليون دولار! وأن العراق صرف 150 بليون دولار على التسلح... لم نر لها أثراً في حادثة الموصل الشهيرة (تعرفون المقصود!) حيث تبخر التسليح ومعه الجيش الجرار أمام حفنة من المسلحين... مما يقول كل شيء. عيب. ولكن هل ما زالت المفردة دارجة في أي من اللغات؟