تستقبل «مكتبة الإسكندرية» البحر وهواءه المحمّل برذاذ موج خريفي مضطرب من جهتها الخلفيّة التي يميّزها بناء بيضوي قاتم اللون يجثم فوق الأرضيّة الإسمنتيّة للباحة الرئيسية في تلك المكتبة. يحتضن البناء في دواخله «القبة السماويّة» التي تعتبر من المشاريع العلميّة البارزة في تلك المكتبة. وفي تلك القبة، تقدّم صورة للسماء وأفلاكها ونجومها، مع تفاصيل عن النظام الشمسي وكواكبه السيّارة، استناداً إلى علم الفلك الحديث. في مواجهة مدخل «القبّة السماوية» تظهر نافورة صغيرة يحتويها أنبوب زجاج لا يزيد قطره عن ميناء منبّه تقليدي، وهي مثبّته فوق ركيزة إسمنتيّة. ووفق إرشادات مثبّتة قرب النافورة، يستطيع الزائر أن يستخدم مقوداً أحمر اللون يحرّك لوحاً شمسيّاً لتوليد الكهرباء، يعلو النافورة. ومع تحرك اللوح، يتغيّر مقدار ما يقطفه من طاقة الشمس، فتتغيّر شدة التيّار الكهربائي الذي يحرك النافورة، وتتبدّل مستويات انبثاق المياه وارتفاعاتها. وعلى مقربة من البناء البيضوي القاتم، تظهر مربّعات سود شبه زجاجيّة، لا تزيد مساحة كل منها عن شباك بيت عادي، رتّبت بنسق هندسي له زوايا قائمة. وتمثّل المربّعات «ساعة» تعمل بالطريقة التي عرف الفراعنه منها الوقت، بمعنى أنها تتبع الظلال التي ترسمها الشمس. وتجاور المربّعات دائرة بأرقام مدرّجة، ما يجعلها تشبه ميناء ساعة تقليدية. وعند الوقوف على مربع ورفع الذراع باتّجاه الشمس، يقع الشخص وذراعه على رقم يشير إلى الوقت. والأرجح أن كثيرين أدهشهم التقارب بين توقيت ساعة الظلال الفرعونيّة، والساعات الحديثة. متى يكون العلم... علماً؟ تعيد تلك الساعة الى الذهن نقاشات معمّقة في العلوم عند الشعوب، بالأحرى عن الفارق بين وجود معارف متراكمة وتقنيّات متقدّمة من جهة، وتبلور تلك المعارف العملانيّة في صورة علم صلب، بالطريقة التي يعرّف فيها العلم في الحضارة الحديثة، خصوصاً ظهور نظريات متماسكة ومنسجمة فيه. ولعل الأحدث حضوراً في اللغة العربيّة في ذلك النقاش، هو ما يقدّمه المفكر الأميركي أندرو غريغوري في كتابه «أوريكا! ولادة العلم» (صدر بالعربيّة في 2008 عن «المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر»، ترجمة أمل منصور). يرى غريغوري أن الشيء الأساسي في العلم يتّصل أساساً بوجود تفكير تنطبق عليه مواصفات المنهج العلمي في التفكير. وضمن أمثلة متنوّعة، يعطي غريغوري مثلاً عن الفلك، فعلى رغم أن حضارات كثيرة تراكمت لديها معارف عميقة بالأفلاك، لعل أبرزها الحضارة المصرية، إلا أنها لم تبلور علماً صلباً عنه. ولم تترك الحضارة المصريّة مؤلّفاً عن الفلك. ولا يؤْثَر عن الفراعنة تصوّر منسجم علميّاً عن الفلك، على رغم معرفتهم الدقيقة بالكثير من حركات الشمس والنجوم، كما يظهر في آثارهم الباقية الممتدة من الأهرام إلى معابد الأقصر وغيرها. ويشير غريغوري إلى أن الفراعنة ظلوا أسرى تصوّر أسطوري عن السماء والأفلاك، تعطي نموذجاً عنه رسوم معابد الكرنك، التي يظهر فيها أحد الآلهة بهيئة بشرية عملاقة تتمطى فوق الأرض والنجوم، في تقوّس هائل. في المقابل، توصّل اليونان إلى بلورة نقطة البداية لرؤية علميّة عن الأفلاك والنجوم، وفق غريغوري الذي يشير إلى أن الدقة ليست وحدها معياراً للعلوم، بل أن العلم متغيّر دوماً. وبذا، يصح القول إن اليونانيين بلوروا بداية علم الفلك، على رغم ما شابها من أخطاء جمّة. وقبل غريغوري، فجّر توبي هاف نقاشاً مشابهاً في الموضوع عينه، تردّدت أصداؤه في العالم العربي، حين جرت ترجمة كتابه «فجر العلم الحديث» (صدر عن سلسلة «عالم المعرفة» الكويتيّة الشهيرة). وتعيد ساعة الفراعنة في باحة مكتبة الإسكندريّة ومنظر الفلك في «القبّة السماوية» إلى ذلك النوع من الأسئلة. ولم يتأخر السؤال عن الفارق بين العلم فعليّاً من جهة وبين وجود معارف متراكمة وممارسات تقنيّة متقنة من الجهة الأخرى، عن الانتقال إلى ردهات «مكتبة الإسكندرية»، إذ حضر السؤال عينه إلى قاعة المحاضرات التي استضافت أخيراً مؤتمراً عن «تاريخ الزراعة عند المسلمين الأوائل». وأشار غير متحدّث إلى استفادة العرب والمسلمين الأوائل من علوم اليونان في الزراعة وما يتّصل بها، خصوصاً كتاب «الأعشاب» لليوناني ديسقوريدس. وغني عن القول إن البلاد التي تمددت فيها الإمبراطوريّة العربيّة- الإسلاميّة، كانت غنيّة بمعارف وتقنيّات عن الزراعة والنبات وما يتصل بها، كاستخدام الأعشاب في صنع الأدوية. وتذكيراً، تأثّر المسلمون الأوائل في ذلك المجال بالكتاب المرجعي للعالِم اليوناني جالينوس «قوى الأدوية المفردة». مرجعيّة «الفلاحة النبْطيّة» جمع المسلمون تجارب الأمم السابقة في الزراعة، فكانت اللبنات الأولى لتأسيس علم الفلاحة، وهي التسمية الإسلاميّة لعلم الزراعة. كان ذلك التراث متوارثاً، وبعضه مدوّناً في متون الكتب، لعل أبرزها كتاب «إفلاح الأرض وإصلاح الزرع والشجر والثمار ودفع الآفات عنها» الذي اشتهر باسم «الفِلاحَة النَبْطيّة» وترجمه ابن وحشيّة من السريانيّة إلى العربيّة في القرن الثامن الميلادي. وصار «الفِلاحَة النَبْطيّة» مرجعاً أساسيّاً في الزراعة لعلماء المسلمين كلهم. هل تبلوّر علم الزراعة فعليّاً في الحضارة العربيّة- الإسلاميّة، أم أنه كان متبلوّراً في حضارة اليونان والحضارات الأخرى التي عاشت طويلاً في البلدان التي شملتها الحضارة العربيّة- الإسلاميّة؟ واستطراداً، ساعد تنقّل المجموعات البشريّة في أرجاء الإمبراطوريّة العربيّة- الإسلاميّة في تنقل الموروث الشفوي وممارسات الزراعة المتوارثة. وبذا، انتقلت أساليب الري من الشرق إلى الأندلس وانتقلت زراعات من صقلية إلى تونس والمغرب. وأنتج المسلمون كل ما يحتاجونه من المنتوجات الزراعيّة، بل إن أحد المؤرّخين وصف ذلك الأمر بالقول: «لم أسمع أن المسلمين في شتى الأرجاء كانوا يستوردون سلعاً غذائيّة... إذ وضعوا مؤلّفات علميّة عرّفوا فيها خواص التربة، وطُرُق تركيب السماد، كما أدخلوا تحسينات جمّة على طرق الحرث والغرس والريّ». وظهر في الإمبراطوريّة العربيّة- الإسلاميّة نوع من الزراعة المتخصّصة بالاستناد إلى البعد الجغرافي والمناخي لأقاليمها المختلفة. وبذا، مالت خوزستان ومصر والمغرب وفارس والشام إلى زراعة القمح. واهتمت بلاد الديلم والمغرب ومصر بزراعة القطن والكتان، وكلاهما له قدم راسخة تاريخيّاً في بلاد النيل. وحول النخيل وتموره تمحورت الزراعة في شبه الجزيرة العربيّة والعراق وفارس ومصر وكرمان، وراجت زراعة الزيتون في بلاد الشام كلها، فيما نال قصب السكر اهتماماً فائقاً في خوزستان وجنديسابور والشام.