بعض الأحيان نتفاجأ بدرجات «تحبيك» الأكاذيب لدرجة أنها تفوق التخيلات. وتكون الأكاذيب خيالية في أبعادها عندما تسعى مؤسسات محترمة، أو حتى حكومات كبرى في «حبكها». واخترت لكم بعضا من أغربها: خلال عام 1943 كانت الحرب العالمية مشتعلة، وكان الحلفاء يستعدون لتحرير أوروبا من قبضة القوات النازية من خلال مجموعة عمليات تحرير عسكرية جريئة. وكانت السرية ضرورية جدا، ولكنها لم تكن كافية، فلجأت القيادات العسكرية إلى التمويه. وكانت حيلتهم الذكية جدا أنهم لجأوا إلى اختلاق كذبة كبيرة لإخفاء خطتهم لغزو القارة الأوروبية من خلال دولة اليونان المحتلة آنذاك. والواقع أن نواياهم الحقيقية كانت لغزو صقلية في إيطاليا من قواعدهم في شمال أفريقيا. ولو «شربت» القوات الألمانية الكذبة، فكانت ستحشد قواتها في اليونان استعدادا لغزو الحلفاء، بدلا من أن تكون على بعد حوالي ثمان مائة كيلو متر على ساحل صقلية الإيطالية. وكونت الاستخبارات العسكرية البريطانية شخصية وهمية عسكرية رفيعة المستوى في مشاة البحرية الملكية البريطانية. أعطوه رتبة رائد بحري واسم «وليام مارتن»، وكونوا له شخصية حقيقية، بعائلة حقيقية، وخطيبة جميلة، وحياة مهنية موثقة. وحصلوا على جثة أحد المشردين «الطازجة» من إحدى مستشفيات لندن، وألبسوها البذلة العسكرية، ثم وضعوها في ثلاجة وسفروها بغواصة بريطانية إلى شواطئ إسبانيا. وبعد ذلك أنزلت التايمز خبر نعي لمقتل الضابط في حادث سقوط طائرة في جنوب البحر الأبيض المتوسط. وقبال الساحل الإسباني عند نقطة محسوبة لسحب التيار إلى الشاطئ تم إلقاء جثة «مارتن» بعد تجهيزها للمهمة، وبيدها حقيبة مقاومة للماء، وبداخلها أوراق سرية للغاية تحتوي على الخطة السرية لإنزال قوات الحلفاء في اليونان. ووجدها خفر السواحل الإسباني وسلمها إلى مندوبي القوات النازية. وشربوا جميعا المقلب فبعدها تم حشد القوات النازية في اليونان، وتم انزال الحلفاء بنجاح على شواطئ صقلية. وكانت فاتحة تحرير الأراضي الأوروبية المحتلة من النازية. وهذه من أغرب قصص الكذب «المحبوك» في تاريخ الحرب والصراعات العسكرية. والطريف أنها سميت عملية «الكفتة» Mincemeat. ولكن أروع الأمثلة على «حبكة» الكذب لا تقتصر على التاريخ العسكري فحسب، ففي تاريخ الرياضيات نجد بعضا من أجمل القصص وأغربها. كانت بعض من أقوى النظريات الرياضية في مطلع القرن العشرين من أحد العلماء الفرنسيين باسم «نيقولا بورباكي». وبعض من أفكاره الجميلة لم تقتصر على النظريات والمعادلات الرياضية فحسب، بل تعدت ذلك إلى فلسفة الرياضيات لتشمل بعضا من أهم جوانب آليات التفكير في المعضلات الرياضية بفروعها المختلفة. واستمر عطاء هذا العالم الفذ لفترة طويلة وصلت إلى مطلع الثمانينات الميلادية. والمفاجأة الكبرى هي أن «بورباكي» لا وجود له. فهو شخصية وهمية وضعتها مجموعة من علماء الرياضيات في فرنسا بدءا من عام 1935. كانت المجموعة تهدف لتقديم الجديد بدون الإشارة إلى أسمائهم الحقيقية فكانوا يجتمعون على فنجان قهوة في باريس ويخرجون بعضا من أروع الأفكار في الرياضيات. وتحولت الأفكار إلى أوراق علمية وكتبت كلها باسم «نيقولا بورباكي». الغريب في مجموعة العلماء أن كلهم كانوا من العلماء المتميزين جدا من المدرسة العليا للرياضيات في باريس وكان انضمامهم إلى المجموعة يحتم السرية والتقاعد عند سن الخمسين، والتحالف على إنتاج الكتب العلمية الجادة. وشملت المجموعة بعضا من نوابغ العلوم في فرنسا مثل «جان كولوم» Jean Coulomb و «اندريه فايل» Andre Weil. أمنيــــة حسب بعض التقديرات أن الإنسان يتعرض لمعدل كذبة واحدة في الساعة على الأقل. وأتعرض شخصيا لأكثر من عشرة أمثال ذلك. وبعض منها سطحية وواضحة، وكأمثلة نجد الادعاء أن الكيان الصهيوني يمثل الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. والبعض الآخر عميقا ولا يمكن الكشف عنه إلا بعد فترة. أتمنى أن يقينا الله شرور الأكاذيب المحبوكة حتى لو كانت في «الكفتة» .. وهو من وراء القصد.