تونس: كمال بن يونس تتواصل الحملة الانتخابية على أشدها بين الرئيس الحالي المنصف المرزوقي، ورئيس حزب «نداء تونس» الباجي قائد السبسي، المرشحين للجولة الثانية في الانتخابات الرئاسية التونسية - المقرر إجراؤها قبل نهاية الشهر الحالي - لاختيار أول رئيس «للجمهورية الثانية». منذ الإعلان عن النتائج الرسمية للدور الأول، التي قلصت الفارق بين قائد السبسي والمرزوقي في الدور الأول إلى 6 نقاط فقط - بعد أن كانت نحو 20 في استطلاعات الرأي - احتدت لهجة المتنافسين وأنصارهما وتطورت إلى مظاهرات وحملات إعلامية تخللتها أعمال عنف لفظي استنفرت طاقات غالبية صناع القرار في تونس لوقفها. وكان الولاء إلى الزعيم التاريخي لتونس الحبيب بورقيبة أو معارضته من أبرز «أوراق اللعبة». فما الذي يميز المرشحين لرئاسة تونس على الصعيدين الإنساني والسياسي؟.. هل يمثلان فعلا «عالمين متناقضين» باعتبار المرزوقي من أبناء الجنوب الصحراوي وأصيل عائلة بدوية فقيرة شردها بورقيبة بين تونس والمغرب بسبب «أب معارض»، بينما ولد قائد السبسي في العاصمة تونس وكان منذ أيام شبابه مقربا إلى بورقيبة. ما الفرق بين المرزوقي «البدوي والزعيم الثوري المعارض لابن علي» وقائد السبسي الذي ولد في العاصمة وبها نشأ وتعلم قبل أن تتاح له منذ السنوات الأولى لاستقلال تونس فرص تقلد مناصب أمنية وسياسية ودبلوماسية عليا في الدولة توجها برئاسة البرلمان في السنوات الأولى من عهد بن علي؟ وهل تشقهما فعلا خلافات عميقة تبرر «اصطفاف» نحو مليون ناخب وراء كل منهما في الدور الأول للاقتراع العام يوم 26 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي؟.. أم أن جوهر المعركة بينهما أساسا سياسي مؤقت محوره صراع حول المواقع و«المناصب» توقفت عنده أغنية الفنان التونسي العربي الكبير لطفي بوشناق عن «السياسي»، التي اختتمها بمقطع فني جميل في البيت الرائع: «خذوا المناصب والكراسي لكن خلولي الوطن»..؟ اعتبر الخبير في الأنثروبولوجيا والخطاب السياسي د.كريم بوزويتة أن ميزة «الشخصية الانتخابية» للمرشح محمد المنصف المرزوقي هي التركيز على ورقة «الضحية»: فهو «ضحية» منذ طفولته بعد ترحيل والده المعارض لبورقيبة من تونس، ثم كان «ضحية» في عهد بن علي بسبب ما يعتبره «نضالا ضد التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان». ضحية «النظام القديم» المرزوقي يقدم نفسه دوما «ضحية المنظومة القديمة» التي تحاول تشويهه والإساءة إليه معتمدة على «الإعلام الحقير» ورموز «النظام السابق» و«الدولة العميقة» و«التجمعيين الفاسدين» أي نشطاء الحزب الحاكم في عهد الرئيسين بورقيبة وبن علي. ويضخم هذا «المنهج الانتخابي» تأثيرات عنصر «المؤامرات» الداخلية والخارجية التي تستهدف «الضحية» وحلفاءه بحجة أنهم «أوفياء لخط الثورة ولدماء شهدائها وجرحاها ولتضحيات أجيال من المناضلين التونسيين من أجل الحريات والكرامة» من مختلف التيارات. وعند قراءة السيرة الذاتية التي كتبها المنصف المرزوقي عن نفسه عام 2001 - أي قبل أعوام من وصوله قصر قرطاج - يتضح فعلا أن جزءا من أسباب تفوق المرزوقي في دراسته منذ طفولته في تونس ثم في المغرب وفرنسا عقلية «الضحية» التي تريد أن تتحدى كل خصومها بمن فيهم الزعيم الحبيب بورقيبة ورفاقه الذين اضطهدوا والده الشيخ محمد البدوي المرزوقي. وكان محمد البدوي من زعماء الحركة الشبابية الوطنية بعد الحرب العالمية الثانية، وانحاز إلى الأمين العام للحزب الدستوري وزعيم أول معارضي بورقيبة صالح بن يوسف. فلما كانت الغلبة لابن يوسف أجبر على الفرار إلى المغرب حيث قضى بقية عمره هربا من الاغتيالات والاعتقالات التي شملت كثيرا من رفاقه «اليوسفيين». وقد كلفت هجرة المرزوقي الأب عائلته ضائقة مالية وصعوبات تحداها «الضحية» المرزوقي الابن بالتفوق في الدراسة في تونس قبل أن يدعوه والده إلى طنجة حيث تفوق في المدرسة الفرنسية على أترابه الفرنسيين. وبفضل ذلك التفوق تمكن «الضحية» من متابعة دراساته الجامعية في كلية الطب بستراسبورغ بفضل منحة تعليم حكومية فرنسية. وفي فرنسا تعرف على شريكة عمره الفرنسية التي أنجبت له ابنتيه مريم ونادية. لكن «الضحية» عاد إلى تونس بعد 15 عاما قضاها في فرنسا ليبدأ مغامرات وصراعات علمية وجامعية وسياسية أسهم خلالها حسب كتاباته عن سيرته الذاتية في تطوير الطب بتونس. وكانت إحدى محطات «ثأر الضحية لوالده» نشره مؤلفات عن الطب المغاربي فاستقبله الزعيم بورقيبة عام 1981 ليوسمه ويوشح صدره بـ«وسام الجمهورية» تقديرا لبحث طبي أعده وشارك به في مسابقة «جائزة بورقيبة للطب المغاربي». ومكنت تلك الجائزة «الضحية» ووالده من «إعادة الاعتبار» لعائلة فقيرة انحاز «كبيرها» قبل 27 عاما إلى معارضي بورقيبة وفاء لشعارات «منظمة صوت الطالب الزيتوني الثورية». وشاءت الأقدار أن «عدو الأمس» بورقيبة «اضطر» لتكريم نجلها اعترافا بكونه «كسب التحدي» بفضل تفوقه العلمي، حسب المؤرخ والكاتب التونسي محمد ضيف الله. علماني.. ينحاز إلى الإسلاميين يؤكد الدكتور المنصف المرزوقي في كتابته عن سيرته الذاتية قبل 10 أعوام من وصوله إلى السلطة أنه بدأ مسيرته «قوميا عروبيا اشتراكيا» على غرار تيار عريض من شباب الستينات والسبعينات في القرن الماضي الذين تأثروا بالزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر وزعماء التيارات اليسارية العالمية. لكن «نكسة حرب يونيو/ حزيران، 1967» ومستجدات أخرى جعلت المنصف المرزوقي يخير التعمق في الدراسات الجامعية والطبية والمطالعة على العمل الحزبي الميداني تنفيذا لنصيحة والده - الذي يطيب له تسميته «الديكتاتور الأكبر» - بكون «بوابة الانتصار على إسرائيل وعلى القوى الاستعمارية تبدأ عبر التفوق العلمي مثلما فعل اليهود منذ عقود». ويعتد المرزوقي بنجاحات على هامش مسيرته العلمية الجامعية، بينها تفوقه على الطلبة الفرنسيين في جامعته في مسابقة فتحت لطلبة جامعته الفرنسية عن «المهاتما غاندي»، مما مكنه من زيارة للهند وجامعاتها من شمالها إلى جنوبها طوال شهر كامل. وقد تركت تلك الزيارة أثرها عليه مدى الحياة حسب تصريحاته. وكان المرزوقي يحاول خلال كامل المدة التوفيق بين توجهه القومي العربي و«علمانيته» ومواقفه التي تدعو إلى الفصل بين الدين والدولة. لكن شاءت الأقدار أن يصبح المرزوقي، الذي أكد في مذكراته أنه لم يكن «يرتاح للإسلاميين» ولا لأقصى اليسار، عضوا في قيادة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في الثمانينات بعد عودته إلى تونس، ثم عين رئيسا لها عام 1989 بعد أن عين بن علي كاتبيها العامين حمودة بن سلامة والدالي الجازي ثم رئيسيها سعد الدين الزمرلي ومحمد الشرفي وزراء في حكومته. وخلافا لتوقعات أصدقائه العلمانيين وفي الحزب الحاكم تطور المرزوقي إلى «أكبر مدافع عن الإسلاميين» الموقوفين والمعتقلين مطلع التسعينات خاصة بعد أن تأكد مقتل ما لا يقل عن 30 من بينهم تحت التعذيب، وتعرض آلاف منهم إلى التعذيب. وقد تسببت تلك المواقف في إبعاد المرزوقي عن قيادة المنظمة الحقوقية التونسية عام 1994 ثم سجنه بعد إعلانه الفجائي نيته الترشح لرئاسة الجمهورية في انتخابات أكتوبر من العام نفسه، في مبادرة «استغربها وقتها أصدقاؤه وخصومه» حسب الجامعي والقيادي في رابطة حقوق الإنسان زهير بن يوسف. * بين بورقيبة وبن علي * ولا ينكر المنصف المرزوقي أنه، على غرار الغالبية الساحقة من المعارضين والكتاب المستقلين، انحاز بعد 1987 إلى رئيس تونس الجديد زين العابدين بن علي، حيث لم يسم هؤلاء إبعاده لبورقيبة «انقلابا»، بل رحبوا بحزمة الإصلاحات التي أعلنها وشرع في تنفيذ بعضها وبينها إصدار «عفو تشريعي عام» عن كل السجناء والمنفيين السياسيين السابقين وبينهم آلاف من الإسلاميين والنقابيين واليساريين ووالد الرئيس المرزوقي الشيخ محمد البدوي الذي عاد إلى موطنه بعد أكثر من 30 عاما من الغربة «لأنه أقسم ألا يعود في عهد بورقيبة حيا أو ميتا» حسب تعبير نجله في مذكراته. وقد نشرت للمنصف المرزوقي في الأعوام الثلاثة الأولى مقالات عديدة بالعربية والفرنسية تساند إصلاحات بن علي. لكن العلاقة بين الرجلين توترت خلال الأعوام الـ15 الأخيرة من حكم بن علي عندما تبنى المرزوقي تقييما «ثوريا» لابن علي ونظامه، وأصبح منذ عام 2000 يرفع شعار «نظام بن علي لا يصلح (بضم اللام) ولا يصلح (بفتح اللام)». وتعاقبت انتقادات المرزوقي لنظام بن علي والمقربين منه إلى درجة أن بعض خصومه وأصدقائه الحقوقيين - مثل خميس الشماري وفرج فنيش وعبد اللطيف الفوراتي وخميس قسيلة - أصبحوا يصفونه بـ«الثورجي» و«الفوضوي سياسيا»، لا سيما عندما رفض عام 2001 الاعتراض عن حكم غيابي صدر بسجنه لمدة 8 أشهر. وكاد التفويت في فرصة الاعتراض يتسبب في اعتقاله بحجة أنه يرفض التعامل مع «القضاء والمؤسسات التي تخضع لحكم بن علي». وكان رفاقه الحقوقيون رفضوا هذا الموقف بحجة أن الحقوقيين «يعارضون القوانين التعسفية والمؤسسات القمعية لكنهم يتعاملون مع الواقع بهدف تغييره دون تبني منطق (ثوار الجبل) الذين يتمردون على الواقع بكل مكوناته». وحسم المرزوقي الخلاف بأن غادر البلاد واستقر في فرنسا وعاد للتدريس في جامعاتها وأسس فيها منذ 2001 حزبه الصغير «حزب المؤتمر» الذي ضم بين أعضائه منذ تأسيسه «منشقين عن حركة النهضة» بينهم عماد الدايمي الأمين العام الحالي للحزب، والوزير السابق في حكومة الترويكا سليم بن حميدان، والسفير السابق خالد بن مبارك. كما استقطب المرزوقي في نفس الحزب شخصيات من اليسار التونسي، مثل المحامين عبد الرؤوف العيادي ومحمد عبو وعبد الوهاب معطر وسامية عبو.. إلخ * من العلمانية إلى التحالف مع الإسلاميين * ويتهم عدد من السياسيين والكتاب والجامعيين التونسيين، مثل المنصف عاشور وسمير الطيب وآسيا العتروس، المنصف المرزوقي بكونه تطور تدريجيا من علماني يساري قومي إلى «حليف قوي لحركة النهضة» في المنفى ضد بن علي ثم في تونس بعد يناير (كانون الثاني) 2011 ضد خصومها اليساريين والليبراليين مثل الباجي قائد السبسي وزعامات «أقصى اليسار الماركسي» مثل حمة الهمامي. لكن المرزوقي يورد في مذكراته أنه لم يختر حلفاءه لأن تمسكه بمبدأ الفصل بين الدين والدولة وبمرجعياته العلمانية لم يمنعه من الابتعاد عن بعض العلمانيين واليساريين الذين أورد أنه اكتشف «موافقتهم في مجالسهم الخاصة على قمع بن علي لحركة النهضة وللإسلاميين من منطلق عدائهم للفكر الإسلامي والقومي العربي جملة وتفصيلا». وشبه المرزوقي في مذكراته هؤلاء «العلمانيين واليساريين المتطرفين» بنظرائهم العنصريين في «أقصى اليمين وأقصى اليسار في فرنسا حيث العداء للإسلام وليس للإسلاميين وللعروبة وليس لتيار من القوميين». ثنائية الحقوقي ورجل الدولة وإذ يجد المرزوقي نفسه اليوم في واجهة الأحداث والمنافس القوي للباجي قائد السبسي للرئاسة، فإن الكثير من خصومه ومنتقديه، مثل الكاتب والوزير السابق للتعليم العالي عبد السلام المسدي والجامعي ناجي جلول، يعتبرون أن «نقطة ضعفه الكبرى ثنائية الحقوقي ورجل الدولة». ويتهم المرزوقي من قبل سياسيين بارزين، مثل الحقوقي حمودة بن سلامة وزعيم الحزب الجمهوري أحمد نجيب الشابي، بكونه «خلط بعد توليه رئاسة الجمهورية بين مواقفه الحقوقية وواجبات التحفظ والتريث بصفته رجل دولة لا يحق له أن يدلي بتصريحات متسرعة مثل تلك التي انتقد فيها مواقف الجزائر من النزاع الصحراوي مع المغرب أو المنعرج العسكري الأمني في مصر منذ يوليو (تموز) 2013». * يعترف للباجي قائد السبسي خصومه وبعض أعدائه بكونه رغم تقدمه في السن لا يزال من أكثر الشخصيات السياسية الوطنية «كاريزما» وقدرة على التأثير في الرأي العام عندما يظهر في وسائل الإعلام بما يذكر الكهول والشيوخ والعجائز بـ«كارزيما» الزعيم الراحل بورقيبة. وعلى الرغم من بلوغه الـ89 لا يزال كثير من أنصار السياسي المخضرم وخصومه، بمن فيهم زعامات من التيارات الإسلامية واليسارية مثل راشد الغنوشي وعبد الرزاق الكيلاني وسمير الطيب، ينظرون إليه نظرة «المنقذ» السياسي الذي نجح بعد انهيار حكم بن علي مطلع 2011 في تجميع غالبية السياسيين من مختلف التيارات حوله وحول حكومته الانتقالية. ويقر هؤلاء بكون «دهاء الباجي قائد السبسي» كان وراء نجاحه في إجهاض «مؤامرات» داخلية وخارجية كثيرة حاولت أن تمنع إنجاز أول انتخابات تعددية في أكتوبر 2011، كان معروفا أن نتيجتها ستكون تفوقا ساحقا للإسلاميين من نشطاء حركة النهضة وحلفائها العلمانيين، وبينهم حزب الرئيس المصنف المرزوقي. ويقر خصوم زعيم حزب نداء تونس وخصومه، مثل زعيم حزب العمل الوطني الديمقراطي عبد الرزاق الكيلاني، بدور قائد السبسي شخصيا في إقناع العلمانيين «المتشددين» في تونس وفي العواصم الغربية وصناع القرار في واشنطن وباريس وبروكسل، بكون «الإسلام لا يتناقض مع الديمقراطية» وبكون العلمانيين التونسيين الذين جربوا عقودا من المواجهات الأمنية مع الإسلاميين وقادة حركة النهضة يؤمنون اليوم بالتوافق بين كل الأطراف السياسية التونسية «بمن في ذلك أنصار راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو وحمادي الجبالي وعلي العريض الذين حوكموا في عهدي بورقيبة وبن علي بالإعدام والمؤبد بسبب أفكارهم وتحركاتهم السياسية». ويؤمن كثير من السياسيين من أنصار الباجي قائد السبسي بأن «اعتدال» زعيمهم وشخصيته «الوفاقية» كانا وراء تسليم مؤسسات الدولة إلى أول حكومة منتخبة يوم 27 ديسمبر من العام نفسه في مشهد تاريخي بقصر الحكومة بالقصبة وقع بثه على الهواء مباشرة إلى العالم أجمع. وكان الحدث رمزيا من حيث تأكيد الصبغة السلمية للانتقال الديمقراطي في محفل جلس فيه كل وزير جديد إلى جانب الوزير المتخلي، فيما وقف رئيس الحكومة الجديد حمادي الحبالي مع سلفه الباجي قائد السبسي باسمين، وتبادلا الخطب والقبلات والابتسامات، قبل أن يعقدا جلسة رسمية سلم خلالها الباجي خليفته «الوثائق السرية والاستراتيجية» للحكومة والدولة. * مرحلة ما بعد تأسيس الحزب * لكن التقييمات لقائد السبسي تباينت أواسط عام 2012 بعد أن خرج الباجي قائد السبسي عن صمته وأسس مع ثلة من الشخصيات السياسية حزبا سياسيا أطلقوا عليه تسمية حزب «نداء تونس»، أعلنوا أنه مفتوح للمستقلين والنقابيين واليساريين ومنخرطي حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الذي وقع حله مباشرة بعد ثورة يناير 2011 ضمن ما سمي باستراتيجية «القطيعة مع الماضي ومع النظام السابق». وقد فجر تأسيس الباجي قائد السبسي ورفاقه لحزب ضم بعض وزرائه في حكومة 2011 انتقادات بالجملة لـ«المنقذ» السابق الذي أصبح يعتبر «محاميا عن إعادة رموز النظام السابق للحكم وللحياة العامة». ولم تقف الأمور عند هذا الحد، فقد أصبح قائد السبسي عرضة لانتقادات غير مسبوقة. واتهم من قبل زعامات قومية عربية ويسارية وإسلامية بالتورط في انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان عندما كان مديرا للأمن ثم وزيرا للداخلية والدفاع ما بين 1955 و1969. وأثيرت ضده قضايا في المحاكم بتهمة الضلوع في قتل المعارضين لبورقيبة وتعذيبهم وفي تبرير محاكمات استثنائية ضد بعضهم، وبينهم وبين المجموعات القومية العربية «اليوسفية» الموالية لجمال عبد الناصر ثم العسكريين الذين حاولوا الانقلاب على بورقيبة في 1962 وصولا إلى الطلبة القوميين واليساريين الذين تظاهروا في الجامعات والشوارع ما بين 1964 و1969. * من مؤسسي المعارضة * إلا أن أنصار قائد السبسي يدافعون عن زعيمهم وعن انخراطه المبكر في الدفاع عن الحريات منذ انسحابه من مؤتمر الحزب الحاكم في المنستير عام 1971 مع ثلة من وزراء بورقيبة السابقين مثل أحمد المستيري، بسبب مطالبتهم بإدخال إصلاحات سياسية على نظام الحكم. وكان قائد السبسي من بين السياسيين الليبراليين الذين كتبوا وقتها في وسائل الإعلام العالمية، مثل «لوموند» الفرنسية، للمطالبة بتحرير الحياة السياسية. وكلفتهم تلك المواقف قرارا بطردهم من حزب بورقيبة في مؤتمر 1974 الذي صادق على إجراءات متشددة وعلى «انتخاب بورقيبة زعيما للحزب والدولة مدى الحياة». وقد لعبت تلك المجموعة دورا في تأسيس أول منظمة مستقلة لحقوق الإنسان في العالم العربي في 1977 وأول حزب معارض في 1978. لكن بعد إعلان بورقيبة الانفتاح على المعارضة مطلع 1980 وتعيين الكاتب والمثقف الليبرالي محمد مزالي رئيسا للحكومة، انسحب قائد السبسي من المعارضة والتحق مجددا بحزب بورقيبة، فعين وزيرا معتمدا لدى رئيس حكومته ثم وزيرا للخارجية حتى 1986 تاريخ تعويضه بشخصية من موطن بورقيبة المنستير تولت مطولا حقيبة سفارة تونس في باريس الهادي مبروك، فيما عين السبسي سفيرا لدى ألمانيا إلى ما بعد تسلم بن علي الحكم في قصر قرطاج بقليل في نوفمبر (تشرين الثاني) 1987. * اختلف مع بن علي مبكرا * وإذا كان بعض خصوم قائد السبسي يشككون في شخصية «المنقذ»، التي يصفه بها الخبير في الخطاب السياسي محمد الجويلي، بحجة أنه عمل مع بن علي رئيسا للبرلمان حتى عام 1991، فإن أنصاره ينوهون بكونه اختلف مع بن علي مبكرا، وهو ما يفسر إحالته إلى التقاعد السياسي منذ ذلك الحين، وإن مكنه من عضوية اللجنة المركزية للحزب الحاكم حتى 2003. لكن بصرف النظر عن كل هذه التقييمات المتباينة يعتبر الجامعي سعيد بحيرة، القيادي في حزب نداء تونس، أن «من بين نقاط قوة قائد السبسي» أن لديه قدرة على تجميع التونسيين والسياسيين بكل ألوانهم، وأصبح يتزعم لأول مرة حزبا يضم شخصيات «من عدة تيارات دستورية وتجمعية ويسارية وقومية ونقابية بينها الأمين العام الأسبق لاتحاد نقابات العمال الطيب البكوش الذي اختاره أمينا عاما للحزب». في السياق نفسه، اعتبر خالد شوكات، الكاتب والعضو القيادي في الحزب، الذي انشق في التسعينات عن «النهضة»، أن «قائد السبسي معجزة أهداها الله إلى تونس اليوم ليعيد تجميع السياسيين الذين فرقتهم 4 أعوام من الصراعات».