أن تكتب أديبة عالمية مرموقة كالأفريقية-الأميركية أليس والكر مقدمة كتاب «ابن الجنرال: رحلة إسرائيلي في فلسطين» للكاتب ميكو بيليد، دليل على أن أهميته تتعدى فلسطين وإسرائيل. جمال هذه السيرة أنها تمزج سيرة الوالد بسيرة الابن وبأحوال فلسطين/إسرائيل السياسية والاجتماعية، فتتداخل هذه النواحي جميعاً لتكوّن وحدة ممتعة ومشوّقة بتنوّعها. وهي مفعمة بالحب على رغم المآسي السياسية والانسانية التي تعرضها: حب الكاتب لأسرته، ولا سيما والده، حب العرب، وحب فلسطين/اسرائيل. يقول: «أعيش في مكان (الولايات المتحدة) وقلبي في مكان آخر (فلسطين/اسرائيل)» (ص192). يروي ميكو بيليد سيرة والده ماتي بيليد الذي كان من أهم جنرالات الجيش الإسرائيلي، وأهم الدافعين إلى شن إسرائيل حرب 1967 ضد مصر وسورية. ولد ماتي عام 1932 في حيفا، حمل جوازاً فلسطينياً، وحين اندلعت الاضطرابات عام 1948 في فلسطين، انضم إلى الجيش الذي حارب الانتداب والعرب لتحقيق دولة اسرائيل. وحين تأسست الدولة الإسرائيلية، أُرسل إلى إنكلترا لإكمال دراسته العسكرية. بعد انتصار إسرائيل الموقتد على مصر في 1956 عُيّن حاكماً على غزة، وبعد انسحاب إسرائيل من غزة وسينا عُيّن قائداً على فيلق القدس، ليرقى في 1964 إلى رتبة لواء رئيس سوقيات (لوجستيك) الجيش الإسرائيلي، وهو أعلى منصب في الجيش، ما عدا منصب رئيس أركان الجيش. وحين احتدم النقاش بين قادة الجيش عام 1967 حول محاربة مصر وسورية، أصرّ بيليد على أن اللحظة مواتية للهجوم، وانتصرت إسرائيل. شكّلت هذه الحرب ونتائجها نقطة تحوّل في تفكير بيليد ومواقفه السياسية وحياته. بعد انتصار إسرائيل، عارض بيليد بشدة احتفاظ إسرائيل بالأراضي العربية المحتلة، ورآها لحظة مواتية لتوقيع السلام مع العرب وتأسيس دولتين صديقتين. وإذ عجز عن إقناع زملائه في الجيش والحكومة، استقال من الجيش. في غزة، كان قد قرّر أن يتعلّم العربية ويتخصص بها، وحين استقال انتقل مع أسرته إلى الولايات المتحدة ليعدّ لشهادة الدكتوراه، إذ اختار أن يصبح أستاذاً للغة العربية وآدابها في الجامعة العبرية، على رغم شهرته العسكرية والوظائف المرموقة التي عُرضت عليه. ومن ثمّ بدأ يناضل في سبيل حقوق الفلسطينيين: يحاضر ويكتب لإظهار خطأ الصهيونيين في تمسكهم بالأراضي المحتلّة ومخالفتهم نتيجة ذلك لما يدّعون من ديموقراطية، وصادق عدداً من الشخصيات الفلسطينية أمثال عصام سرطاوي (الذي ما لبث أن اغتاله إرهابي من منظمة أبو نضال). أيّد أفراد أسرته موقفه، ولكن قاطعه جميع الإسرائيليين، فلم يعد يُدعى أو زوجته إلى حفلة أو وليمة، وكثيراً ما هُدّد بالموت. ومع قلّة من الإسرائيليين الذين شاركوه موقفه، أسّس المجلس الإسرائيلي للسلام الإسرائيلي- الفلسطيني. وبعدما زار السادات القدس، أتيح له الذهاب إلى القاهرة حيث صادق نجيب محفوظ. بعد سيرة هذا الجنرال المميّز، يسرد ابنه ميكو سيرته هو، متداخلة مع سيرة والده، وفيها نرى مدى تأثره بمواقف والده السياسية. ثار ميكو على أن يدوس الجنود أراضي الفلاحين الزراعية، وعلى وحشية الجيش الإسرائيلي في معاملة العرب المسالمين. وبكثير من الغضب يذكر احتلال اسرائيل للبنان عام 1982، ومسؤوليتها عن مجزرة صبرا وشاتيلا. وبعد أن أُصيب بجروح بالغة في إحدى المعارك استغنى عن العودة إلى الوحدات الخاصة التي كان قد انضم إليها، وتدرّب على أن يكون مساعداً طبياً. وبفارغ الصبر، انتظر تسريحه من الجيش. وفي رأيه كانت الحسنة الوحيدة لخدمته العسكرية أنه تعرف إلى «كيلا» التي تزوجها في ما بعد. انفجار وتحول حين قُتلت ابنة أخته في انفجار في القدس، انقلبت حياته وحياة أسرته. حضر الدفن إسرائيليون وفلسطينيون، وانضمّ والدا الطفلة إلى حركة تناضل للسلام في فلسطين تضمّ عرباً وإسرائيليين فقدوا أولادهم في الحروب والانفجارات. وشكلت الحادثة نقطة تحوّل في حياة ميكو بيليد أيضاً. في القسم الثالث من الكتاب، «الطريق إلى فلسطين»، يظهر ما كان عنده من أفكار مسبقة متحاملة على الفلسطينيين من غير أن يكون قد عرف أحدهم، كما استنكر عنصرية اليهود في إسرائيل وأميركا ضد العرب والمسلمين. فبذل جهوداً جبارة في كاليفورنيا للتعرف إلى من يشاركه آراءه السياسية المؤمنة بالسلام بين العرب والإسرائيليين. في النهاية، اهتدى إلى جورج مجيد خوري الفلسطيني الاصل، وإلى اللجنة الأميركية العربية لمناهضة التمييز العنصري. ومنذ اجتماعه الأول بهم شعر بأن العلاقة بينه وبين الفلسطينيين أوثق بكثير منها بينه وبين اليهود الأميركيين. يقول: «أخيراً عثرت في أميركا على جزء من الوطن» (ص119)... وبعد أن تكرّرت اجتماعاتهم أسسوا جمعيات عدة للحوار بين عرب ويهود. وبصدق وصراحة نادرين، يصف الكاتب خوفه الشديد حين زار الناصرة، وهو اليهودي الوحيد، يتجول في مدينة عربية لا يرى فيها إلا عرباً، وهذا على رغم صداقاته العربية ومشاعره اللاصهيونية. ولكن بعد أن أخذ يرتاح إلى «هؤلاء العرب»، فاجأه أنهم كانوا يعرفون ويحبون والده الذي سمّوه «أبو سلام». حينئذ وعى تماماً أهمية الدور الذي كان قد لعبه والده في الدفاع عن الفلسطينيين. وحين قرّر أن يزور الضفة وحده، وصف بكثير من الغضب الحواجز والقيود التي فرضها الإسرائيليون على سكان الأرض الأصليين، وشتى ألوان الإهانة والتعذيب التي أنزلوها بالعرب. وإذ منعت السلطات الإسرائيلية الإسرائيليين من زيارة مناطق عربية «خوفاً على حياتهم»، أوقفوا ميكو بيليد واستجوبوه ساعات فقط لأنه زار تلك المناطق، وحين انضم إلى تظاهرة احتجاج على تصرفات الإسرائيليين الوحشية قبضوا عليه وكبّلوه على رغم كونه أميركياً. وكانت الطامة الكبرى بالنسبة إليه حين منعته السلطات المصرية وصديقه الفلسطيني من إدخال أدوية ومعدّات طبية إلى غزة المحاصرة، وبعد انتظار يومين عبثاً اضطروا إلى العودة إلى القاهرة بخفّي حنين. إلا أنهم سلّموا الادوات والأدوية إلى مطران الكنيسة الإنجيلية في عمان فأوصلها إلى غزة. وينهي الكاتب هذه السيرة المؤثرة بفصل «أمل السلام». وحين قرّر تأسيس مدرسة للكاراتيه في الاراضي المحتلة، اصطحب ابنيه وابن أخته. وكلما استمع إلى قصص الذين عانوا ما عانوه في السجون الإسرائيلية، ازداد إعجاباً بهذا الشعب البطل الذي كان فيه من لا يزال يؤمن بمقاومة سلمية على رغم كل شيء. فتوصل إلى أن الحل الوحيد هو إقامة دولة واحدة علمانية ديموقراطية قائمة على المساواة الكاملة بين جميع مواطنيها من يهود وعرب. «حبيب العرب» بما أن الجزء الأكبر من كتاب «ابن الجنرال» يتناول سيرة الإبن نلاحظ كم يحسن هذا الابن تحليل نفسه وتقديم صورة صادقة عن مشاعره وأفكاره. مثلاً، يصف عذابه حين كان طفلاً لأن والده كان يحبّ العرب فنعته رفاقه الصغار بـ«حبيب العرب» على رغم جهله التام للسياسة، فأحسّ بالغربة في إسرائيل. ثم حين جُنّد، اختار الانضمام إلى الوحدات الخاصة التي يميّزها اعتمار «بيريه حمراء». وهنا يعلّق: «رغبت برموز مكانتها المميّزة، بما فيها البيريه الحمراء، الأسلحة نصف الأوتوماتيكية الخاصة، الأحذية البنية والدبابيس، علامة أكثر المميزين في إسرائيل». ويضيف: «ولكن من الصعب أن اقول إلى أي حد كان ذلك نتيجة غرور، أو نتيجة إحساس وطني. كلاهما لعب دوراً في قراري» (ص78-79). كذلك يصوّر رعب زوجته حين قرّر لقاء فلسطينيين للمرة الأولى في بيتهم، خوفها أن يكونوا قد نصبوا له كميناً لقتله، وإصرارها على أن يتصل بها كل خمس دقائق وفور تركه الاجتماع (ص118). وإذ فاجأه أن يسمع رواية الفلسطينيين عن «النكبة» التي ناقضت كل ما كان قد سمعه من والده وغيره من الإسرائيليين، عاد إلى كتب المؤرخين الإسرائيليين «الجدد» أمثال إيلان فافي، بنّي موريس وآفي شلايم ليتأكد من صحة ما يذهب إليه رفاقه الفلسطينيون. ويعرّف القارئ أيضاً بمعلومات كثيرة ربما كان يجهلها، مثل النقاش الطويل والصراع بين الحكومة الإسرائيلية وقائد جيشها قبل إعلانهم حرب 1976 (ص42-47). ولا يخلو الكتاب من مقاطع إنسانية مؤثرة. حين قُتلت ابنة أخته الصغيرة في هجوم وعاد إلى بيت الوالدين المنكوبين بعد الدفن الذي حضره جمع غفير من الإسرائيليين والعرب، رأى أن الوالدين كانا قد علّقا على باب شقتهما: «حرّروا فلسطين». وحين التقت زوجته بشيخ فلسطيني واكتشفا انهما أصلاً من بلدة «مجدل» التي حوّلت إسرائيل اسمها إلى «اشكالون» انهمرت دموع الرجل، وكانت المرة الأولى التي رأته فيها ابنته يبكي لضياع فلسطين. إلا أن الشيخ العربي أكد للمرأة اليهودية أمامه: «لم تكـونوا أنتم المسؤولين عن ذلك». ويظــهر بيلـــيد في كتابه هذا أن في الحياة أيضاً ما يخفّف من وطأة هذه المآسي. مثلاً، حين وصل إلى منزل «مجيد وهيفا خوري» وقف مصعوقاً أمام اسم «هيفا» إذ لم يكن قد خطر له ان «هيفا» اسم امرأة وعربي، وأن مدينة حيفا كانت عربية قبل أن يحتلها الاسرائيليون. فالإسرائيليون يلفظون «الحاء» «ها» فأصبحت «حيفا» «هيفا» عندهم. بسبب هذا المزج بين السيرة والتاريخ، بين العاطفة والوصف، وبين المعلومات والفكاهة، يُقرأ الكتاب بمتعة ليس بعدها متعة.