"زيارة سجى ما كانت سوى انخطافة ما بين إغماضة وإفاقة" هذه الانخطافة كما سمتها أميمة الخميس في روايتها الأخيرة قِصرُها نسبي، فقد امتدت عبر شخصيات وأحداث كتبتها ببراعة على امتداد فاق 370 صفحة في زيارة سجى تدخلنا أميمة مجدداً بيوت الرياض الكبيرة، دهاليز علاقاتها، وفصام شخوصها بين تلبية حاجات الجسد والنفس الملحة وبين شرط مجتمعي مجحف، حين تكون مساحات الحب ضيئلة ومحذورة فتتعلم أرواح المكان خلق واجهات تحجب هشاشتها عن أنياب الآخر الجائع مثلها. وفي النص تعري أميمة أوجاع هذا المجتمع الأرستقراطي عبر شخصياته الأصيلة والطارئة، وهي ذات المنطقة التي تتحرك في فضاءاتها روايتاها السابقتان (البحريات الوارفة) لكنها هنا تبرز إلحاح الطارئين أكثر؛ تفضح وسائلهم المخجلة لدخوله، وتكشف لنا كقراء في الوقت ذاته عدم استحقاقه كل هذا العناء. والمفارقة في موقفين متناقضين داخل هذه البيوت؛ ففيما نلحظ ازدراء نساء هذا المجتمع للملحين، تصدمنا فلاشات أميمة السريعة المحتشمة ملتقطةً جوانب من شهوة رجاله لتجريب لا المهووسات بدخول عوالمهم بل وحتى غير المعنيات به؛ فشهية أبي منصور مفتوحة للعنود التي عُرضت صورتها عليه، ولبدوية لم ير إلا طرف ثوبها الأحمر في شعيب بعد مطر، وابنه الشاب جمع بين زوجة وجرب خادمة فلبينية. وللانتماء كقضية تشغل أميمة تمظهرات عديدة، فالانتماء للمكان فكرة اشتغلت عليها منذ مجلس الرجال الكبير حين انشغلت البطلة عن رؤية خاطبها برمزية المكان (المجلس). ثم أفردت له البحريات حين جاءت ببهيجة الشامية ابنة الماء لتصارع جفاف بيت آل معبل، وأخرجت به الجوهرة "الوارفة "من الرياض إلى كندا قبل أن تعيدها لبيت عليشة، فالمكان عند أميمة "هو إحساسك وعلاقتك به، وما سوى ذلك هو مجموعة من الشوارع تنبت على جنباتها الأبنية، تماماً كمشاعري هنا، فهي تمطر في الخارج الآن ومقدم النشرة الجوية يعتذر للمشاهدين عن الأجواء السيئة.. تخيلي!!" هذا ما قالته بطلة قصتها "عنوان منال" من مجموعتها "الترياق" والتي هي الأخرى مأزومة بشرط المكان. والانتماء للمجتمع مظهر آخر يؤرق أميمة؛ ففي زيارة سجى يُطرح السؤال بإلحاح عند هند وأميها (لولوة والعنود) فلولوة في المجمعة لا تجد لها انتماء ببيت أبيها، وتنتقل لحي الشفا فتنعزل عن زوجها، ثم تصل شمال الرياض عبر جسد ابنتها العنود وتظل قلقة، تحارب لتنتمي، ويطاردها تهديد النبذ لآخر عمرها بزواج هند الذي قد يخرجها من بيتها. وهو ذات الإشكال مع العنود في بيت أبي منصور، والتي تلمح لولوة كلما حكت عنها إلى أن زواجها الثاني والاختياري لم يسعدها أيضاً. وهند تتشرب أحاسيس النبذ من الجدة، لولا نفحة الأمل بوجود سلطان وعشقه لها من ناحية، ثم بتلميح أميمة بأن حقيقة موقف بيوت أبي منصور منها أفضل مما تراها الفتاة. وحين نصل لسجى بإلحاحه المتعالي وتوكيده على عدم بشريته ينتقل سؤال الهوية لمرتبة أعلى بتعصي صاحبه حتى على التصنيف كمذكر أو مؤنث. قلم أميمة الذي بدأ الكتابة ناضجا منذ"الضلع حين استوى" يبهرني كمتابعة مع كل عمل بمزيد من النضج والتألق، وتظل الرياض ساحة لعب قلمها المبدع، وهي وإن عرفت صرامة الرياض فقد وجدت وسيلة لتجعلني أرى فيها وجهاً صالحاً للحب قليلاً (قليلاً فقط). "الرياض مدينة مخاتلة بوجوه لامتناهية، تبدي للطارئين واجهة نبت الصبار، لكنها تخفي خرائط ينابيع العسل" صفحة 26 "في نوفمبر تكون الرياض آخاذة، وحده موسم الوسم يتجول في المدينة، وقد خبأ في معطفه بعض الغيوم والأمطار، والكمأة تدخل الرياض في مزاج رائق شجي" وعين المحب للرياض في أميمة أذكى من أن تتركني أنطوي على شكوكي دون تبرير ما أراه وأحسه في هذه المدينة إن زرتها، فتستدرك بما يؤكد كم تظل هذه المدينة ترعب الطارئين، حين ترصد بعين لولوة شقيقات زوجها القادمات من المجمعة "يبقين متلفات كخاطوف ليلي حذر" صفحة 76 وحذر الخواطيف هذا تكشف لنا الكاتبة أنه لا يفارق الطارئ لو طالت إقامته ف"إيلين تظل كالنملة تجمع وتخبئ الحاجات لشتاء الخروج " في حجرة تاج السر صفحة 355 وعبير بنيّة الرياض ستظل تدفع ضريبة جينات أمها فترعاها بيوت أبي منصور ولا تسمح لها بأن تنال اسمها، وهنا تحديداً تقول أميمة بوضوح: "عبير نشأت في بيت مهمته الأولى هي الفرز وصناعة الطبقات" صفحة 320 والعجيب في صراعات الانتماء عند أميمة هو كونها أنثوية، قليلا ما يدخلها المذكر، وهذا عجيب لأنه صراع ذكي فحين لا تشغل أميمة بطلاتها بالصراع مع المذكر قدر مايتصارعن عليه، فهي تحت مظهر التصالح هذا تخفي وتكشف نديتها وتورطها بالصراع كمنتجة لهذه الشخصيات؛ فهي ككاتبة بنعومة تقمع المذكر فلا يحضر إلا إن كان عاشقا لأنثى، هذا شرط انتماء المذكر لمساحات الحكي والبطولة في نصوصها، خارج مساحات العشق هذه ستخنقه؛ لن تسمح له بأن يتمدد على أوراقها ولا أن يسمعنا صوته. لكن من يدري كيف سيحضر الرجل في أعمالها القادمة؟ فهذه الأطياف المتنوعة والصالحة للكتابة التي تحوم في محيط الكاتبة تظل تلح على الانكتاب بهوس ظهور لا يشبع، فشخصية أم عبيد التي تتأرجح بين خادمة ومرافقة شخصية كجزء من مكونات بيوت الرياض الكبيرة في روايتها الوارفة عادت في صورة أم حسين أكثر إنسانية وروحانية وأثرا. وشخصية الطبيب البدوي بدأ معه عربجياً، بوجهه الجلف وفروته الشتوية، ومر سريعاً في الوارفة، ثم عاد أبهى في زيارة سجى بصورة فارس عاشق، سلطان الذي يعشق الصقور والصيد ويتواصل مع العالم عبر الفيس بوك. أما هالات النور التي كانت الجوهرة تتمتع بموهبة رؤيتها فوق رؤوس البشر، وتُسهّل عليها تحديد مشاعرها تجاههم، تتلجلج الجوهرة وتخشى تكذيبنا كقراء لهذه الهبة، وتأتي سجى في زيارتها لتفخر بها على البشر الفانين، وبها تكمل لنا ما غاب من مشاهد السرد حين تقرأ تموجاتها حول الأجساد، ومازالت ظلال عوالم سرية مخبوءة في صناديق كتابة أميمة لأعمال قادمة، تعدنا بها حين تقول عن أم حسين وجنيها "اقشعر جلدي هلعا لرؤية أربع أعين تتأملني من قاع بؤبؤ عينيها" صفحة 360 وقد استوقفني في ختام الرواية حضور أميمة باسمها وفعلها كبطلة أخرى للنص، وهي قفزة تجريبية لم أعهدها في تقنيات أميمة الحذرة، ولست بصدد حكم نقدي عليها إلا أن اعتمادها أسلوب تعدد الرواة مهد لدخول صوتها، ولولا هذه التقنية لبدا دخولها فجا، ثم حين اختارت لصوتها موقعه بذكاء، فهي دخلت قبل ختام النص مستفيدة من أجوائه الغرائبية ثم خرجت لتسمح لشخصياتها بإكمال تخلقها، ولو جاءت في ختامه لقتلته. كما أن غرائبية البطلة التي حمل النص اسمها (سجى) برأيي مهد هو أيضاً لدخول الساردة في النص، مستفيدة من اتفاقي الضمني كقارئة على لعبة النص.