تشكل تجربة تونس الحالية آخر أمل لإنقاذ ما أطلق عليه مجازاً بالربيع العربي، بينما كان في حقيقة الأمر خريفاً للصراع بين التيارات الدينية والأقليات الليبرالية والأنظمة السياسية القديمة، والسبب أن تونس الدولة الوحيدة التي استمرت في تجربتها الديموقراطية فترة أطول من جاراتها، لكن المستقبل لم يُحسم بعد، وقد تنهار تلك التجرية بعد وصول أول رئيس ديموقراطي، بعد أن تبدأ معارك حرق المراحل من قبل الفئات الخاسرة، كما حدث في بلاد عربية أخرى. يحدث ذلك لأن التجربة الديموقراطية لازالت ضعيفة الأساس بين الجماهير العربية، ولا زال مشاعر الشك وعدم الثقة تسيطر عليها، وأن الفائز في الانتخابات قد يختطف الحكم، ثم يقرر بعد ذلك تمديد فترة رئاسته إلى مدى الحياة، كما حدث في فترات سياسية سابقة بعد الاستقلال في كثير من الدول العربية، وهو ما يجعل من الحركة الديموقراطية في مهب الريح في بلاد العرب، وقد يحتاج الأمر إلى عقود من الزمن والصراع، وذلك للوصول إلى مرحلة الاتفاق على مبادئ وطنية وغير مؤدلجة لخدمة تيار عن آخر.. الديموقراطية ليست خياراً نخبوياً، بل ثقافة يتشربها الناس في حياتهم العامة، ومن ثم تظهر آثارها في مختلف مجالات الحياة، لكن شرطها الأهم أن تصبح مثل طوق النجاة من تبعات الحروب الأهلية الدموية والصراعات الأيدولوجية، وأن يكون الاحتكام إليها ضرورة قصوى للخروج من الهلاك والخراب، وقد احتاجت الدول الغربية فترات زمنية طويلة وحروبا أهلية قبل الوصول إلى الخيار الديموقراطي، وإلى اللجوء إليها من أجل إيقاف هدر الدماء وخسارة الثروات الوطنية.. في دول عربية أخرى، لازال الصراع الدائر بين القوى الدينية التي ترى في الديموقراطية كفراً، وبين العسكر والأحزاب القومية الدكتاتورية وتيارات الأنظمة القديمة يهيمن على السياسة، لذلك ستظل الديموقراطية خياراً بعيد المنال، ما لم تحدث معجزة، ولن تحدث، لأن المعجزات لا تحدث إلا بعد التحولات التاريخية الكبرى، ولكن قد تفرضها الأحداث الدموية ودمار الدول، وذلك عندما يصل المتصارعون إلى نقطة اللا حل، ويضطرون إلى قبولها كآلية إدارية لفرض السلم الاجتماعي.. من أكثر الانتقادات التي توجه إلى الديمقراطية هو خطر «طغيان حكم الأغلبية». وكان أول من استخدم هذا المصطلح هو ألكسيس دو تاكفيل في كتابه «الديمقراطية في أمريكا، الذي ألفه عام 1831، ويفسر ذلك خوف بعض الأقليات في سوريا والعراق من طغيان حكم الأغلبية، ففي العراق يشكو السنة من إضطهاد الشيعة، وفي سوريا تخاف الأقليات من وصول متطرفي الغالبية السنة إلى الحكم. المفارقة في الأمر أيضاً أن بعض الطرح الأصولي يرى في حكم الأغلبية تناقضاً مع الإسلام، وذلك عندما يقدمون الديموقراطية كحراك مناف للإسلام، وذلك لأن مفهوم الأمة لا يدخل فيه غير المسلم والعامي المسلم، وأن السيادة في النظام السياسي الإسلامي للشريعة الإسلامية وعلماء الدين، بينما تكون السيادة في النظام الديمقراطي للأمة أو للمجالس التشريعية التي رشحتها الأمة، لذلك يقدمون نظرية الحكم في الإسلام على أنها حكم الأقلية، التي يمثلها الفقهاء ورجال الدين، وأن حكم الأغلبية ضلال، ويستدلون بآيات قرآنية على ذلك. خلاصة الأمر أن الرهان على مستقبل الديموقراطية العربي يعتمد في الوقت الحاضر على نجاح تجربة تونس، برغم من أن مشاعر التشاؤم تفوح من أحاديث المرشحين، والتي تدخل في مسألة الصراع السياسي على طريقة «أنا ومن بعدي الفوضى»، وخصوصاً عندما يعتقد أحدهما أنه «الثورة»، بينما الآخر يمثل النظام القديم، وهو ما يفتح الباب أمام النكوص للرجوع مرة أخرى للاستبداد.. في العالم العربي لا يمكن إقصاء أنصار الأنظمة القديمة بقرار سياسي أو قضائي، لأنهم يشكلون نسبة غير قليلة من السكان، ولأن السلطات القديمة عملت لعقود لتأسيس قوى اجتماعية مؤثرة داخل بلادهم، ولهذا لن يتوقف الصراع بعد نهاية مرحلة انتخابات تونس، ولكن قد تكون بدايته بعد إعلان الفائز في الانتخابات الرئاسية، والسبب أن الأنظمة القديمة تتميز بعمق وتجذر روابطها مع الدول العربية الأخرى، وكأن الحكم و السياسة عند العرب أشبه بناد للنخبة التي تُكتسب بطاقة الانضمام إليه بفرض الأمر الواقع.