ها هي مقالة أخرى ضمن مجموعة مقالات "ركوب الموج" التي نُشر آخرها في الاقتصادية الإلكترونية بتاريخ 10 سبتمبر الماضي (أي قبل نحو ثلاثة أشهر تقريباً)، وموجة "المسئولية الاجتماعية" تأتي بعد موجات "الاقتصاد المعرفي"، "الاقتصادات الكبرى"، "التخصيص"، وسواها، وها هي قد أخذت دورها مؤخراً في حشد "الزخم" من قبل الناشطين، وإلى حد ما، الرسميين، وتوالت اللقاءات والمنتديات التي تتحاور حول هذا الموضوع الذي يسلط عليه الضوء من قبل الإعلام، فما حقيقة هذه الموجة؟ يُعنى مفهوم "المسئولية الاجتماعية للشركات" (Corporate Social Responsibility- CSR) بجوانب تتعلق بالالتزام بالأنظمة واللوائح، المعايير الأخلاقية للعمل، الأثار المترتبة من الأعمال على البيئة، وعلى المجتمع المحلي الذي تتواجد فيه، والعملاء بما فيهم فئات ذوي الاحتياجات الخاصة، والعاملين بما فيهم فئات ذوي الاحتياجات الخاصة، وما في حكم ذلك، وكلها جوانب يُمكن فرضها ضمن إطار تنظيمي ولوائح تنفيذية وتقويم لمدى الإلتزام بها، ومخالفة من يُخل بتلك الإلتزامات، وبناء على ذلك تسعى الشركات لتحقيق الأهداف التي تأسست أصلاً لتحقيقها (وهي النمو والربح) دون الإضرار "بالإنسان" أو "النظم البيئية" أو يتعارض مع "المصالح العامة"، فهل تتضمن "المسئولية الاجتماعية" ما تدعو إليه المنتديات واللقاءات وما في حكمها من توصيات تتعلق بتخصيص جزء من موارد الشركات لدعم المجتمع ورعايته وإعانته؟ ربما هو أمر "محمود"، بل وربما "مندوب"، أن يصدر بيان من إحدى الشركات بأنها ترعى جهة خيرية، أو قدمت "تبرعاً" لأحد الكيانات "المحتاجة"، أو أن لديها "برامج لدعم فئات اجتماعية" (كتدريب مكثف لتأهيل مجموعة من الباحثين عن العمل وإعدادهم للقيام بمهام العمل المكلفين به)، وسيكون لذلك أثر بالغ لدى المجتمع، وتقدير كبير لجهود الشركة على تبني مثل هذه الجوانب من "المسئولية الاجتماعية"، إلا أن كل ذلك لا يُمثل سوى "جزء" من القصة. تُخصص الشركات "قدراً" مناسباً من مواردها للترويج لمنتجاتها من خلال الحملات الإعلانية، واستطلاعات الرأي، وملاحظات العملاء، وسواها، وذلك من خلال أقسام متخصصة ضمن تشكيلاتها الأساسية (كقسم للدراسات والبحوث وآخر لخدمات العملاء وغيرهما)، فأي حملة ترويجية أكثر تأثيراً من تلك التي تتعلق بتخفيضات "تصفية نهاية الموسم" أو تلك المرتبطة "بالرعاية والتبرع"؟ إن من الإيجابيات التي تميز "حملات الرعاية والتبرع" عن غيرها هو ما تساهم به في تأسيس "المظهر العام" للشركة، والمكانة "الاجتماعية" التي تأملها، والذي ستحرص الشركة على "الحفاظ" على ذلك "كصورة نمطية" وانطباع إيجابي "ثابت" عنها، وهذا "حقٌ مشروعٌ" لها ولا ينبغي أن "يُحسب ضدها". إذاً فما "الجزء غير الظاهر" حيال "حملات التبرعات والرعاية"؟ فلنفترض أن الدول التي تعمل بها الشركات تفرض "ضرائباً" على الإيرادات على أساس تصاعدي (بمعنى أن تُفرض ضريبة بنسبة 10% على شريحة الإيرادات حتى 100 ألف دولار، ونسبة 12.5% على شريحة الإيرادات ما بين 101 – 500 ألف دولار، وهكذا)، ولنفترض أن إيرادات الشركة قد بلغت (101) الف دولار (بمعنى أن الضريبة التي ستُفرض على الشركة ستبلغ 12,265 دولار)، ففي حال تبرعت الشركة بمبلغ الألف دولار على أساس أنه مبلغ معفى من الضريبة فستدرج الشركة ضمن الشريحة الأولى (بمعنى أن الضريبة التي ستُفرض على الشركة ستبلغ 10,000 دولار، وبإضافة الألف دولار التي تم التبرع بها سيكون إجمالي ما ستدفعه الشركة هو 11,000 دولار، أي أنه تم توفير 1,265 دولار تُقسم على المساهمين)، وبذلك تكون الشركة قد حققت هدف "المظهر العام" إضافة لتحقيق هدف "زيادة الأرباح" المقسمة على المساهمين. إذاً فكل شئ محسوب بدقة متناهية، ولا مكان هنا للوجدانيات وما لا مردود مادي ملموس من صرفه، فالرعاية الاجتماعية هو شأن تقوم به الدولة ضمن مسئولياتها كالأمن، والقضاء، والتعليم العام، والرعاية الصحية الأولية، وغيرها مما لا يُمكن أن يُلزم به القطاع الخاص، ولن يتطوع للقيام بأدائه، ومما يندرج ضمن مفهوم "الخدمات العامة". قد أشرت في المقالة السادسة ضمن مجموعة "ركوب الموج"، كمثال، إلى أن البنوك الأقوى عالميا ًتتنافس لرعاية الجمعيات الخيرية، والأندية الاجتماعية، والأندية الثقافية، والأندية الرياضية، وأقوى البطولات العالمية بمختلف صنوفها وأنواعها الفردية والجماعية والفروسية والسيارات، وغيرها، ليس من منطلق "المسئولية الاجتماعية" بل لما في ذلك من تحقيق لمصالح "أعضاء جمعياتها العمومية"، وذلك من خلال توسع منطقة عملها، وارتفاع مستوى مبيعاتها، وزيادة حجم حصتها في السوق الدولية. وكما أكدت في المقالة السابقة على "تحفظي المبدئي" على خروج مفهوم "المسئولية الاجتماعية" عن "الإطار العلمي"، والذي من خلاله يُمكن وضع "الأنظمة الملزمة" التي يُخالف من يُخل بأحكامها، يبدو مناسباً كذلك التذكير بحال "راكب الدراجة الهوائية" الذي وصفته في المقالة الأولى من هذه المجموعة، فقد حُدد له هدف واضح عليه أن يعمل ليصل إليه، وذلك بعد أن تم تعطيل قدراته المتعلقة بالاحساس بالاتجاه والسرعة (مبادئ فيزياء)، مع تزويد الدراجة بزوج من تروس نقل الحركة (للتذكير.. إذا كان عدد تروس ناقل الحركة فردياً فاتجاه حركة الدراجة هو نفس اتجاه مصدر الحركة- للأمام للأمام، وللخلف للخلف- وإذا كان عدد تروس ناقل الحركة زوجياً فاتجاه حركة الدراجة هو عكس اتجاه مصدر الحركة). النتيجة الحتمية لما يبذله راكب الدراجة وهي أنه كلما بذل جهداً أكبر للأمام كلما زادت سرعة بعده عن الهدف، فإذا به يبذل المزيد وهو غير مدرك إلا لأمر واحد وهو أن الهدف الذي يراه أمامه يبتعد دون أن يفكر في السبب حتى يبلغ حداً يترك فيه الأمر برمته، علينا أن نعي أنه من غير الممكن ومن غير العملي ومن غير العلمي أن نقفز مراحل التدرج الطبيعي لتكوين المجتمعات، وأن ذلك سيكون حال من يحاولون "ركوب الموج" دون التروي والنظر بتعمق إلى كيف تم الوصول لتلك الموجة؟ ما هي طبيعة تلك الموجة؟ وهل نحن مستعدون لركوب تلك الموجة؟ وهنا يتكرر التساؤل الأزلي في مثل هذه الحالات: هل بلغ حد "فقد الاتجاه" لدى الناشطين ليجهدوا سعياً حثيثاً لتبني "مبدأ إشتراكي" دون أن يعوا أنه كذلك (أي أنه مبدأ اشتراكي)، وأنه لن يُمكن أن يتضمنه نظام، وبالتالي لن يُمكن أن يُلزم به شركة؟ ولعله من المناسب أيضاً التذكير أن تحقيق مصلحة "الاقتصاد الوطني" سيكون بالتمشي وفقاً لمتطلبات "القانون الطبيعي" لمراحل تكوين المجتمعات وتطوّرها ولا سواه.