يُعرف الروائيُّ والكاتبُ المسرحيُّ الفرنسيُّ أونوريه دي بلزاك، كأحد أهم الروائيين في القرن التاسع عشر، ومن أوئل الكُتاب الذين كشفوا عن الروابط الاجتماعية المركبة والتأثير العميق للبيئة على الإنسانية، كما يعتبر أحدَ مؤسسي الأدب الواقعيِّ في أوروبا، قامت شهرته على "الكوميديا الإنسانية" التي تُعد أشهر أعماله، وهي سلسلة من حوالي تسعين عملًا أدبيًا، بما في ذلك، الرويات والقصص القصيرة، والتي تعرِض بانوراما عن مظاهر الحياة الفرنسية في السنوات التي تلت سقوط نابليون بونابرت، والمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية في المهن والحرف والطبقات الاجتماعية التي طغت على فرنسا ذلك الوقت. ففي هذا المقال المطوَّل الذي احتواه كُتيب عام (1841) وتُرجم حديثًا إلى الإنجليزية، تناول جانبًا من تلك المتغيرات الحياتية، وبالتحديد عالَم الوظيفة العامة، والبيروقراطية، واصفًا عالم المكاتب وأنواع الموظفين من المتدربين الى الكتبة، وناعتًا الموظف العام بأنه "شخصٌ محتاج دومًا إلى راتبه، ويفتقد للحرية؛ لأنه ليس مؤهَّلا لشيء آخر غير التعامل مع أكوام لا تنتهي من الأوراق، والعمل الروتينيِّ المتكرر"، وأنَّ المؤسسات البيروقراطية تولِّد الخوفَ بين موظفيها، وتشوه- تدريجيًّا- وجهة نظرهم عن أنفسهم ومَن حولهم". الفصل السابع: المتدرب يتصف متدربُ الوظيفة العامة بالبراءة، والسذاجة، والانسياق وراء الوهم، ولكن دعني أسال: كيف سيكون مصيرنا دون الوهم؟ إنَّ الأوهام هي التي تمدنا بالقوة لانتزاع لقمة العيش من الفنِّ، والتهام أصول المعرفة من العلم، ولا تزال تمدنا بالمزيد لنعتقد بها، الأوهام تؤدي إلى الاعتقاد المفرط! فالمتدرب الآن يعتقد بالبيروقراطية، ولكنه لا يراها فاترة، قاسية، بشعة كما هي عليه في الواقع. هناك نوعان من المتدربين: المتدربُ الفقير، والمتدربُ الغنيُّ؛ الأول يمتلئ جيبه بالأمل، ويعيش في عوز دائم للوظيفة، أما الآخر فيفتقر دائمًا إلى الدافع، ويريد الوظيفة بقصد الترفيه لا أكثر، وكأنه يعمل من أجل لا شيء، لأن أسرته ميسورة الحال، لن ترسل ابنها الذكي إلى الوظيفة العامة! يُعهَد إلى المتدرب الميسور بالعمل تحت إشراف موظف كبير أو يُوضع على مقربة من المدير، الذي يبدأ معه بلعبة أشبه بلعبة الكأس والكرة، تلك التي حيّرت الفيلسوف، فيما أسماه بالكوميديا الراقية في الوظيفة العامة. وتنحصر مهمة المحيطين به في تخفيف وطأة فترة التدريب هذه عنه، إلى أنْ يعثر على منصب مناسب له. والمتدرب الغنيُّ، ليس مصدرَ قلق في المكتب، فالموظفون يعرفون أنه لا يشكّل أيَّ تهديد، حيث إنَّه دائمًا ما يضع نصب عينيه أعلى المناصب. أمَّا الهاجس الذي قد يصيب المتدرب الغنيَّ فيكون بسبب الصحافة التي تسلط عليه الأضواء والتساؤلاتِ؛ لأنه لايخرج عن كونه ابن عم، أو ابن شقيق أو قريبًا لبعض كبار الموظفين أو ندا مؤثرا، ولكنه لايحمل همَّا كبيرًا لمضايقات الصحافة؛ فالعاملون معه هم شركاؤه، وسيسعون دائمًا لحمايته! وهكذا، يظل المتدرب الفقير هو المتدرب الحقيقيُّ، إنه دائمًا ما يقتفي خُطا والده، فهو إمَّا ابنا لأرملة الموظف السابق، أو ابنا لموظف متقاعد يقتات من معاش هزيل. تجوع عائلته ليبقى شبعًانا، ونظيفًا، ومكسوًّا. يعيش دائمًا في تلك الأحياء ذات المستوى المعيشيِّ المنخفض والبيوت زهيدة الإيجار، ينتظر بزوغَ ضوء الشمس بفارغ الصبر ليغادر منزله متجهًا للعمل، تثقل كاهله الكثير من المخاوف، مثلا: كيف يمكنه أن يتجنُّب الوحل في طريقه إلى العمل سيرًا على الأقدام كي لا يلطخ حذاءه ويشوّه هندامه! ويحسب كم من الوقت سيستغرق إذا فاجأته عاصفة ممطرة إلى أنْ يجد مأوى! إنَّ الأرصفة المعبّدة والشوارع المرصوفة بالحصى في هذه الحالة تُعد نعمة حقيقية له! وأخيرًا- وليس آخرًا- كيف يحافظ على خزانته في العمل بحالة جيدة؟! لو حدث– مصادفةً- أنْ مشيتَ في شوارع باريس الساعة السابعة والنصف من صباح أحد الأيام، ورأيت رجلًا خجولًا لا تتدلى سيجارة من فمه، يمشي في البرد القارس تحت المطر، وتحت جميع أنواع الطقس الرهيبة، عندها قل لنفسك: "هذا هو المتدرب!" إنه بالفعل منهك. ولو ركّزتَ النظر إلى جيبه، فستلاحظ ذلك الخبز الفرنسيَّ الذي أعطته إياه والدته لسدِّ جوع تسع ساعات بين وجبتيْ الإفطار والعشاء؛ وكي لا يُصاب بتلف المعدة. ولكن براءة المتدرب- أو لنقُل سذاجته- لا تدوم طويلًا؛ فسرعان ما يدرك الهوة القائمة بينه وبين مساعد المدير ذلك، وهو التقدير الذي استعصى على فهم علماء الرياضيات مثل نيوتن، باسكال، لايبنتز، كيبلر، أو لابلاس، والذي يبلغ تقريبًا الفارق بين 0 و1، أو بين المشكلة وحلها! يحاول المتدرب تجاوُز العقباتِ المستحيلة التي تشكل المهنة، إنه يفهم عندما يتحدث موظفون آخرون عن "معاملة تفضيلية" ويشرحونها له، ويشاهد الوسيلة الاستثنائية التي استخدمها رؤساؤه للوصول إلى أعلى السلم، ولكن المتدرب، ذلك الفرد الموهوب للغاية، يأخذ مسؤولياته بجدية، ويخاطر بصحته وهو يؤدي العمل القسريَّ بمثابرة عمياء: هل نحن نشعر دائمًا بهذه القدرة، ومثل هذه المفاخر الرائعة؟ جدران المكتب لها عيونٌ وآذان. وبقدْر ما يتعلق الأمر بأهمية الوظيفة العامة، وحيث إنها فترة تجريبية؛ فإن المِحَن التي يتعرض لها المتدربون قاسية إلى حدِّ ما؛ فإنَّ الشخص يرى كيف يتأقلمون بسرعة مع الجوع، والعطش، والفقر من دون أنْ يسحقهم، ومدى صعوبة أنْ يعملوا دون مواجهة النفور الداخليِّ من هذه الظروف القاسية؛ مما يثبت أنَّ لديهم مزاجًا ملائمًا لتحمُّل هذا الوجود الرهيب- والذي يمكن أيضًا أنْ يوصف بأنه "مرض المكتب"- طوال حياتهم. من وجهة النظر هذه، فإنَّ المتدربين ليسوا ضحايا خدعة مكَّنت الحكومة من الحصول على عمالة مجانية، وإنما هم المستفيدون من الأعمال الخيرية. في المتوسط، سبعة فقط من أصل ثلاثين متدربًا استطاعوا أن يتأقلموا مع البيئة المكتبية، بعد أنْ تدربت أيديهم على الخربشة الثابتة، وبعد أنْ تعلموا إيقاف عقولهم، أو سجنوا أرواحهم داخل إطار الوظيفة العامة الضيقة، وهكذا أصبحوا في نهاية المطاف إمَّا مجرد كَتبة، أو مدرجين على قائمة الانتظار الطويلة للوصول لمنصب المدير.