هل أتى من فراغ مطلق اتهام نائب الرئيس الأميركي جون بايدن لتركيا بتسهيل العبور وتوفير الدعم للجماعات الإرهابية في سورية من «القاعدة» ومشتقاتها، أم أن لإطلاق هكذا تصريح أسبابه السياسية التي تستند إلى معلومات استخبارية دقيقة عن تحرّك جماعات داعش، والمنتسبين الجدد إليها، وانتقالهم من أنحاء العالم قاصدين سورية عبر الحدود التركية دونما عناء يذكر؟ وهل يمكن الولايات المتحدة أن تغفل عن شراء تركيا للنفط المهرّب الزهيد الثمن الذي تبيعه فصائل «داعش»، وقد أضحت تسيطر على ما يزيد على 60 في المئة من إنتاج النفط السوري وتقوم بضخ ما يقارب 100 ألف برميل يومياً في محافظتي دير الزور والرقّة؟ وهل يمكن التغاضي عن أن مبيعات النفط تشكّل المصدر الرئيس لتمويل عمليات «داعش» العسكرية، وأن المشتريَين الأساسيين لهذا النفط الرخيص الثمن هما النظام السوري وتركيا، وهما جهتان على أقصى التناقض السياسي وفي حالة حرب شبه معلنة بينهما؟! صحيح أن نائب الرئيس الأميركي عاد واعتذر عن تصريحه، لكن الصحيح أيضاً أن الاعتذار لا يلغي الحقائق التي انبنى عليها قول بايدن في تركيا. فأنقرة التي وثّقت عهوداً لدول الاتحاد الأوروبي بحدّ انتقال السوريين المهاجرين إلى دول الاتحاد من طريق أراضيها، بإمكانها بالمقياس نفسه أن تمنع انتقال المتطوعين القادمين من دول العالم وأوروبا عبر حدودها للانضمام إلى صفوف «داعش»، سواء من قَدِمَ لإغراء مالي تقدّمه «داعش» وتستقطب من خلاله شريحة واسعة من الشبان العاطلين من العمل من الذين يعانون من اضطهاد اجتماعي في بلادهم نتيجة التمييز وغياب الفرص، أو من طريق الاستيعاب الديني الجهادي الذي تُشن له حملات عريضة عبر شبكة الانترنت. تركيا وضعت شروطاً على الولايات المتحدة لتشارك في التحالف ضد «داعش» في الوقت الذي كان من المفترض بها أن تكون في مقدم القوى المنضوية تحت مظلة هذا التحالف لأسباب عدة من أهمّها: حدودها الطويلة مع العراق وسورية حيث تنتشر وتتمدد قوات تنظيم الدولة، وموقفها من النظام السوري حيث يفترض أنها تدعم المعارضة السورية المعتدلة في الوقت الذي تقوم فيه «داعش» بتصفية الاعتدال المعارض أو تحييده في أحسن الأحوال. فتركيا تخشى أن ينتهي بعض الدعم العسكري الذي تقدّمه قوات التحالف بيد حزب العمال الكردستاني، ما يقوّض مساعي مفاوضات السلام بين أنقرة وقادة الحزب، والتي تعتبر من استراتيجيات الباب العالي التركي. كما أن ظهور قوة كردية ذات طابع مدني ديموقراطي على الحدود التركية قد تكون أصعب وأقل قبولاً من مجموعات سنية متطرفة يمكن الالتفاف حولها في الوقت الذي تحدده أنقرة. وهذا سبب مضاف أثّر سلباً في حماسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للانضمام إلى التحالف الدولي، حيث فضّل أن يتريّث إلى أن يرى تداعيات ونتائج ضربات التحالف وتأثيرها على مقدّرات «داعش» من جهة، وأن تتاح له الفرصة من جهة أخرى ليتطرّق إلى قضايا الإرهاب في شكل ثنائي إقليمي خارج برنامج التحالف، وذلك على شاكلة محادثات وزير خارجيته، داوود أوغلو، في أول زيارة للعراق منذ خمس سنوات، حيث كان ملف الإرهاب ومحاربة التطرّف في رأس المحادثات بينه ونظيره العراقي حيدر العبادي. هذا التغاضي الذي أبدته تركيا عن تنظيم «الدولة» وتحركاته وعملياته العسكرية، والذي أدى إلى اقتحام كوباني (عين العرب) وتهجير عشرات الآلاف من السوريين إلى الأراضي التركية، إنما هو تهيئة مبرمجة للأجواء الدولية بهدف التشديد على حتمية إنشاء منطقة عازلة شمال سورية تكون لأنقرة اليد الطولى فيها والسيطرة شبه المطلقة عليها. هذه المنطقة العازلة هي شرط أساس وضعته تركيا على الولايات المتحدة لدخولها حرب «داعش». وقد يكون لحدث مهم ستشهده تركيا في أيار (مايو) 2015 دلالاته للمرحلة. ففي العام المقبل سيفتتح أردوغان جسر «ياووز سلطان سليم» فوق مضيق البوسفور. والجسر هو الأطول في العالم من حيث جمعه للطريق السريع والسكك الحديد معاً. الدلالة ترتبط مباشرة بالاسم الذي أطلق على المعلم التركي الجديد: فالسلطان سليم الأول الذي وقع عليه الاختيار ليرتبط اسمه بالجسر الذي يصل تركيا بأوروبا، له منعكس سلبي في الذاكرة العربية. ففي عهد السلطان سليم الأول سقطت البلاد العربية بيد العثمانيين إثر موقعة مرج دابق في 1516، ثم سقطت مصر في العام التالي إثر معركة الريدانية. مع هاتين الواقعتين دخل العرب أربعة قرون من الظلمات اتسمت بالتخلّف الثقافي والاضطراب السياسي والفتن الدينية والمذهبية وطغيان النظام الإقطاعي الذي كان سبباً أساساً من أسباب الفقر والمجاعات في فترة الاحتلال العثماني للمنطقة العربية الذي انتهى بقيام الثورة العربية الكبرى في 1916. فصل المقال يكمن في سبر النيات التركية البعيدة المدى من إطلاقها هذا الاسم في هذه المرحلة التاريخية بالغة الحساسية من عمر المنطقة، والتي تتّسم بالانعطافات السياسية الخطيرة في معظم الدول العربية، ولا سيما في سورية. هل هو إنعاش للذاكرة والشهية العثمانية على حساب خسارات الشعب السوري أم أن الأمر برمّته مجرّد ثرثرة فوق البوسفور؟! * كاتبة سورية