×
محافظة مكة المكرمة

أهالي جدة يدعون لمتابعة المقاولين وسرعة إنجاز المشاريع

صورة الخبر

اليوم، وإذ تكاد المراهنة على المحمول التحرري للثورات العربية تضع أوزارها، تبعاً لمآلات تلك الثورات وفشلها، وتحوُّل بلدانها إلى حيز ترابي للاحترابات الأهلية والطائفية، يُكمل «اليومي» تذكيرنا بما لم ننسَه على رغم غلبة الموت والخراب، ألا وهو حرية الرأي والتعبير والكتابة والنشر. وغنية عن الذكر تلك العلاقة الأصيلة بين حرية التعبير وأي نزعة تحررية تطمح إلى الانتقال من منظومة مستبدة مميتة، ثورية كانت تلك النزعة أو إصلاحية. والحال أن الثورات العربية وبغض النظر عن مآلاتها المأسوية، إذا ما استثنينا النموذج التونسي، نجحت في توسيع هامش المسموح به في الكتابة والنشر والتفكير بصوت عالٍ، والأهم أيضاً، المسموح به في الكلام، على رغم الأنظمة التي استهدفتها تلك الثورات، ولأسباب موضوعية تتعلق أولاً وقبل أي شيء آخر، بذلك الدفق البشري الذي هز عروشها وجعلها في حيرة من أمرها، وهي الأنظمة التي لم يُعرف عنها تغيير في سلوكها وخصوصاً في ما خص مسألة الحريات، ولا أي تنازل تقدمه إلا للغرب (أو للشرق)، وليس للداخل الذي تحكمه، كمّاً للأفواه. غير أن كمّ الأفواه ومنع حرية التعبير، كتابةً على وجه الخصوص، لا يقتصر على الأنظمة السياسية الحاكمة، وإنما ينسحب على الكثير من المؤسسات الإعلامية أو المنابر التي قد تتقاطع مع كتّاب كثيرين في الانحياز إلى هذه الثورة من دون تلك، أو إلى تلك من دون هذه، أو تختزل المشكلة في ما هو أرضي من دون الالتفات إلى ما هو غيبي مكتنز بداهةً بالتابوات. هذه بالطبع ليست مأثرة للأنظمة السياسية الحاكمة التي تفتقد أي مأثرة، ولا تندرج ضمن المقولات التي قد تبرئ نظاماً لأن نظاماً آخر يشبهه. وبناء عليه، ثمة منظومات إعلامية، ليست سياسية بحتة، ذات تابوات غير معلنة، تبدو أقرب إلى «نظم فقهية» لا تعلن نفسها إلا لحظة ارتطام نص الكاتب بسقفها، على ما حدث مع أحد الزملاء الذين كتبوا لموقع إلكتروني عربي مقالات دورية بناء على طلب الموقع إياه، فإذا بالموقع، قبل أيام، يمتنع عن الاستمرار في نشر مقالات الكاتب «لأسباب رقابية». يستغرب المرء ذكر أسباب كهذه، ليس بسبب وجود رقابة في بلاد تكاد لا تستطيع العيش من دون عين سحرية وسط عَتمتها، وإنما لما يوحي به كلام المنبر إياه، وكأن المنع والرقابة منفصلان مساراً، أو كأن المنع يمكن أن يتم لأسباب «غير رقابية»، ومن دون أن تكون عينا الرقابة الساهرتان هما ما يوعز باغتيال النص ونصوص أخرى لاحقة محتملة، كما أوعزت، في بلاد العُرب، رقابات سابقة إلى غيرها لجهة اغتيال الكتّاب بغية اغتيال نصوصهم، أو كما طالبت وأوعزت بسجنهم، في أفضل الأحوال، قياساً بقتلهم. والكلام الآن هو عن صحف أو منابر تقدم نفسها «مستقلة»، وهي التي يقف بعضها اليوم منحازاً إلى خط رقابي ما، أو إلى مدرسة إيديولوجية هي، وإن عارضت استبداداً شأن استبداد النظام السوري، فإنها قد تحابي أو تنتمي إلى خط فكري آخر يحوم التابو فوقه بشكل دائم وإن غير معلن. ومن الواضح أن منطقتنا العربية تزخر اليوم ببحر من تلك المنابر كانت ممتنعة علينا قبل الثورة المعلوماتية والرقمية الهائلة، بما يتيح الانتقال والاختيار بينها تبعاً لدرجة اقترابها من الاستقلالية، وليس تبعاً للاستقلالية المستحيلة على أي حال، الأمر الذي يتيح للكاتب الكتابة بحرية نسبية، كما يعني في النهاية أننا ما زلنا وسنبقى نستبدل تابوات بتابوات أُخرى. فالرقيب هذه المرة لا يرتدي رداءً قومياً أو إسلامياً أو شيوعياً بالمعنى التقليدي والحرفي للكلمة، وهو ليس ليبرالياً بالطبع على ما تشير الأحوال والنتائج، وإنما هو كائن هجين بين هذه وتلك، بحيث يأتي المولود مشوهاً. إنها منابر تتحول في لحظة يتألّق فيها النص إلى درجة ملامسته خطاً أحمر ما، إلى سلطة مشابهة للسلطات الآنفة الذكر، وإن من دون عنصر مخابرات يحتكر الدفاع عن «الوطن» في مواجهة من يريدون «وهن نفسيته». وعليه، تتحول تلك الشعارات «الوطنية» أو «القومية» إلى ما يمكن وصفه بـ «الأسباب الرقابية»، ولا حاجة لكثير من التمحيص حتى يعرف المرء أن تلك «الأسباب» هي الوجه الآخر لإيديولوجيا نضالية أيضاً... نضالية ضد كل ما يمكن أن يتفوه به قلم خارج دائرة المسموح وداخل دائرة الممنوع غير الواضح حتى آخر نص يُمنع نشره. الجهة الداعمة، مصادر التمويل، التقلبات السياسية للجهة الداعمة، ثباتها... وبناء على ذلك، يحصل ما يحصل من قمع للكتّاب الذين يثابرون على المحافظة على أفكارهم وحقهم في القول، أو على الأقل حقهم في عدم قول ما هو مخالف لمعتقداتهم، حفاظاً على ما تبقى من التزام وأخلاق في هذه البلاد، وانتماءً للحرية في لحظات أفول إرهاصاتها العربية التي بشرتنا بها الثورات.