نشر "مركز الدراسات العربية والأميركية" تحليلاً سياسياً، في 14 نوفمبر الحالي، يسلط الأضواء على استخدام إسرائيل الاغتيالات لشن حرب تستهدف الكفاءات الفكرية والعلمية كأحد محطات الحرب غير المتماثلة، وما تتركه من تداعيات تُغذي الحرب النفسية ضد الشعوب العربية. درجت القيادات الصهيونية المتعاقبة على ارتكاب جرائم الاغتيالات، منذ ما قبل اغتصاب فلسطين وطرد أهلها، وتسخيرها في خدمة سياساتها الخارجية. من ضحاياها آنذاك عرب فلسطين بالدرجة الأولى، وكذلك بعض مندوبي الاستعمار البريطاني، خلال عقد الأربعينيات من القرن الماضي، بغية ترسيخ الكيان في الأرض العربية. بعض عمليات الاغتيال التي قام بها جهاز "الموساد" نالت إعجاب الوسط الإعلامي الغربي وأضفت عليه صفة أسطورية فندتها سلسلة من الإخفاقات والفشل المذهل، وبروز المقاومة العربية المسلحة. حالات نادرة هي التي استفاق فيها ضمير البعض من اليهود القادمين إلى فلسطين من خارجها. في عام 1955 وجه أستاذ الكيمياء العضوية وطب الأعصاب في الجامعة العبرية بالقدس، "يشعياهو ليبوفيتز"، مذكرة إلى رئيس الوزراء "ديفيد بن جوريون"، يلفت نظره إلى "مقتل فلسطينيين أبرياء خلال العمليات الإسرائيلية". وجاءه الرد بصلافة "لا أوافقك الرأي". الكيان الصهيوني هو الوحيد من منظومة الدول الحديثة الذي أضفى الطابع المؤسساتي على الاغتيالات، في بداية عقد السبعينيات من القرن الماضي، دشنته رئيسة الوزراء "جولدا مائير"، باستحداث جهاز خاص بعمليات الاغتيال، "المجموعة إكس"، وتم رفدها لاحقاً بـ"وحدة قيسارية" من جهاز الموساد لتنفيذ الاغتيالات. ولم تقتصر الأهداف الصهيونية على القادة والكفاءات العربية في فلسطين فحسب، بل امتدت لتصل إلى العواصم العربية الرئيسة، تشهد عليها عمليات اغتيال الكفاءات المصرية والعلماء العراقيين ذوي اختصاصات متعددة، لاسيما بعد الغزو الأميركي، وفي العواصم الأوروبية. ومدت أخطبوطها إلى اغتيال علماء في مجال الطاقة النووية. يذكر أن إسرائيل عرَّضت بعض حلفائها الأوروبيين للتورط في الاغتيالات؛ نظراً لاستخدامها جوازات سفر من تلك البلدان لتيسير تحركات عملائها، فضلاً عن كندا وأستراليا. وعقب انكشاف أمر فريق اغتيالها المكون من 29 عنصراً في اغتيال محمود المبحوح في فندق بدبي، 20/1/2010، واستخدامه جوازات سفر متعددة: بريطانية وألمانية وأيرلندية وفرنسية، طلبت منها عواصم تلك الدول التوقف عن عمليات الاغتيال والكف عن استخدام جوازات سفر بلدانها المزورة. مساء يوم 23/3/1990، استفاق العالم على خبر اغتيال عالم كندي أميركي المولد، "جيرالد بول"، أمام بوابة منزله ببروكسيل، اتضح لاحقا أنه من ألمع علماء الفيزياء الفلكية، وأحد أهم الخبراء في تقنية المدافع طويلة المدى، قيل إنه كان يعمل لحساب العراق في إنتاج "المدفع العملاق". كونه أميركي المولد يستدعي تدخل الأجهزة الأمنية الأميركية في التحقيق بمقتله، إلا أن ذلك تم تجاهله من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي. الاغتيال نفذته "وحدة كيدرون"، وفق تحقيقات صحيفة "الديلي تليجراف" البريطانية 17 فبراير 2010. جدير بالذكر أن القانون الدولي ينص على حظر الاغتيالات في أزمنة الحرب والسلام، فضلاً عن مساسها بسيادة الدول وحقوق مواطنيها. تتحايل "إسرائيل" على النص القانوني بالزعم أن فلسطين ليست دولة ولا ينطبق عليها توخي الالتزام بالقانون الدولي فيما يخص الاغتيالات داخل فلسطين أو ضد الفلسطينيين؛ بل أضافت بمفردها على النص أن لها الحق بملاحقة "كافة الأعداء الذين يقاتلون ضد إسرائيل، وكل ما ينطوي على ذلك". ذاك الفهم والتفسير يتناقض مع لوائح كافة الدول، بما فيها الولايات المتحدة، التي تغض الطرف عن عمليات الاغتيال "الإسرائيلية"، بينما تطلق تصريحات في العلن على نمط "يتعيَّن على إسرائيل الإدراك أن الاغتيال المستهدف ضد الفلسطينيين لا يضع نهاية للعنف، بل يؤجج وضعا متفجرا أصلاً مما يُعقد جهود استعادة الهدوء". تتماثل سياسات الولايات المتحدة والكيان الصهيوني في شراكة التخلص الجسدي من الكفاءات العلمية والقيادات الواعدة للشعوب، لاسيما في الوطن العربي وكل من لا يمتثل لهما. وتفوقت الولايات المتحدة على "شريكتها" لاستنزاف الكوادر العلمية عبر تقديم عروض مغرية بالهجرة والإقامة في أراضيها. ويشهد استقطاب العلماء الألمان عقب الحرب العالمية الثانية على الدور الرئيس والمميز "للمهاجرين" في صنع التقدم التكنولوجي لأميركا، التي تبذل كل ما بوسعها لحرمان بلادنا من خيرة العقول والكفاءات. وأضحت عملية الاستقطاب ركيزة ثابتة في السياسة الأميركية، لاسيما في استهداف ذوي المواهب العلمية الواعدة من خارج أراضيها، الذين يرجع لهم الفضل الأوفى في "مجالات البحوث العلمية والنظرية بمستوى يفوق أي بلد آخر على نطاق العالم". وجاء في تقرير صادر عن "المؤسسة الوطنية للعلوم"، أن الجزء الأكبر من العاملين في حقول العلوم والهندسة بكافة أشكالها في الولايات المتحدة "مواليد خارج الأراضي الأميركية". إذ إن "عملية المقارنة لسوق العاملين حملة الشهادات الجامعية في كافة المعاهد التعليمية.. تشير إلى اختلال لصالح المواليد الأجانب". وأشارت نتائج دراسة مسحية للمجتمع الأميركي أجريت عام 2011، إلى أن نسبة العاملين في حقول الهندسة والعلوم من الأجانب تفوق 26% من مجموع حملة الشهادات الجامعية في عموم الولايات المتحدة. كما أوضحت أن ما يزيد على 43% من المنتسبين لتلك الحقول والحاصلين على شهادات دكتوراه متقدمة هم من المواليد الأجانب أيضاً. تخصص الحكومة الأميركية موارد مالية معتبرة لتمويل هجرة العلماء من الدول الأجنبية، وتعتبرها أحد أولوياتها، وتوفر التسهيلات القانونية لتيسير الهجرة. واستثمرت الحكومة مبالغ طائلة خلال العقود الستة الماضية في مجال الأبحاث الأكاديمية، مما انعكس على تميز معاهدها العلمية في استقطاب أفضل العقول والمواهب في كافة أرجاء العالم. بعد نجاح هجرة هؤلاء تمضي الحكمة الأميركية في توفير مزيد من التسهيلات والإغراءات لهجرتهم الدائمة الأمر الذي استفاد منه نحو 2/3 مجموع العلماء والمهندسين الأجانب وانخرطوا في المجتمع الأميركي كمواطنين. الظروف الاقتصادية الصعبة في البلدان العربية وسوء توزيع الثروة وشح الاستثمارات العلمية، حفزت أعدادا متوالية من طلبة العلم والمتفوقين على التوجه غرباً يقصدون الولايات المتحدة، ويحرم بلادنا من الاستفادة من أدمغة مثقفيها، في أغلب الأحيان. وعند فشل أسلوب الترغيب تستخدم "إسرائيل" سلاح الاغتيال للكفاءات. إنها حرب دائمة مستدامة لكن كلفتها أقل دموية.