×
محافظة الطوال

"قهوة المحطة".. دراما تبحر في عالم جنوب مصر تغريبات فنية تعرض مشهديات من أحلام الكادحين والمتصوفين.

صورة الخبر

الشخصيات أعمدة أي عمل درامي، وكل شخصية درامية تولد في البداية من خلال الكتابة قبل أن تصل إلى التجسيد والأداء والإخراج، لذا فإن كتابة الشخصية بشكل جيد في تطورها وتقلبها ومختلف أبعادها هو مفتاح نجاح أي عمل درامي. وممن أبدعوا في خلق شخصياتهم الدرامية الكاتب المصري عبدالرحيم كمال. القاهرة– الدخول إلى عالم دراما “قهوة المحطة” للكاتب المصري عبدالرحيم كمال نوع من أنواع السباحة في أنهار الملاحم الإغريقية، حيث يجدف بقاربه في عوالم أسخيليوس وهوميروس الثرية بصراع الإنسان مع المآلات المحتومة شديدة القسوة والألم والوجع. وسردية كمال تقدم عالما ساحرا يرتوي من غزارة حياة سكان جنوب مصر أو ما يعرف بالصعيد. وكما أبدع أسخيليوس الكاتب الإغريقي وأحد أوائل وأهم من صنعوا الكتابة المسرحية في التاريخ، بطله الخالد أوريستس في “ثلاثية الأوريستا” التي كتبها عام 458 قبل الميلاد، كبطل تحدى الصعاب وتحمل تبعات تحدياته أمام آلهة الأوليمب، قدم عبدالرحيم كمال في دراما “قهوة المحطة” شخصية الشاب مؤمن الصاوي القادم من الجنوب إلى القاهرة حاملا أحلامه التي لا حدود لها ليقتحم عالمها الملغز بشفراته المعقدة، غير آبه بعواصف الحياة وكوارثها، مستندا على إيمانه بذاته الصلبة. مصرع مؤمن المخرج إسلام خيري استخدم في المسلسل عدة زوايا للتصوير لتكثيف شحنة الحدث الدرامي أهمها الزاوية المنخفضة المخرج إسلام خيري استخدم في المسلسل عدة زوايا للتصوير لتكثيف شحنة الحدث الدرامي أهمها الزاوية المنخفضة عبر شخصية مؤمن، واختيار الاسم له دلالة كبيرة عن الإيمان بالحلم والقتال من أجل تحقيقه، كشف المؤلف عن عالم سحري يتمثل في رسم عدة نماذج للمغتربين من أهل الصعيد الذين استقروا في القاهرة. في دراما “قهوة المحطة” فاجأ عبدالرحيم كمال جمهوره بسردية مغايرة لعالمه الأثير لديه وهو عالم التعمق الروحي في الصوفية من خلال عدد كبير ومهم من أعماله السابقة، حيث يقدم في هذه الدراما تغريبة شديدة الوجع مستلهما خلفية بوليسية منتقاة بعناية فائقة من الروائية البريطانية أجاثا كريستي (أهم كتاب الرواية البوليسية) “جريمة في قطار الشرق السريع” التي صدرت عام 1934. لكن الرواية البوليسية الأشهر لم تكن سوى تكئة بنى المؤلف المصري على غموضها الشديد قصة متفردة من التغريبة الجنوبية، فكما تفاجئ كريستي قراءها باستهلالة روائية صادمة بمقتل راتشيت الثري الأميركي على قطار الشرق السريع العائد من الشرق إلى لندن، ويستقله نخبة من الأثرياء والمشاهير من ضمنهم هركيول بوارو المحقق الأشهر في روايات أجاثا كريستي ليكون كل من على متن القطار مشتبها فيهم، تبدأ أحداث “قهوة المحطة” بمقتل الشاب مؤمن الصاوي، ويجسده الممثل الشاب أحمد غزي، القادم حديثا من الصعيد داخل مقهى يقع على بعد خطوات من محطة مصر بميدان رمسيس، الخاصة بتحرك القطارات من القاهرة وإليها لغالبية مدن مصر. وهنا ننتقل مباشرة إلى أعماق عالم الكادحين القادمين من الصعيد إلى القاهرة، حيث تتضافر أوراق عبدالرحيم كمال مع الرؤية الإخراجية المبدعة للمخرج إسلام خيري ليقدما غوصا حقيقيا في أعماق شخصيات هذا العالم المتفرد، بدءا من اختيار صناع المسلسل المميز لتتر المقدمة لأغنية “يا وعدي على الأيام” للفنان النوبي والموسيقار الراحل أحمد منيب وكتبها الشاعر الراحل عبدالرحيم منصور. وعلى الرغم من مرور نحو أربعة عقود على إطلاق هذه الأغنية، إلا أنها كانت مدخلا رائعا إلى أحداث الحلقات بما تتضمنه من شجن وتأمل لتقلبات الحياة. يلقى الشاب مؤمن الصاوي مصرعه خلال دقائق قليلة يقطع فيها التيار الكهربائي عمدا عن المقهى الذي يكتظ برواد قدموا إليه لمشاهدة إحدى مباريات كرة القدم المهمة، ليصل فريق الشرطة بقيادة المقدم عمر موافي، ويجسده ببراعة الفنان أحمد خالد صالح ليقف أمام جثة الشاب السابحة في دمائها ليبدأ التحقيق لاكتشاف القاتل. منذ هذه اللحظة شرع المؤلف عبدالرحيم كمال في تقديم شخصياته الحادة المرسومة ببراعة شديدة، بدءا من المعلم رياض صاحب المقهى، وقام بدوره الفنان بيومي فؤاد، وغيّر من جلده الدرامي تماما من كونه ممثلا كوميديا إلى تجسيد دور تراجيدي مركب للمعلم القادم من جنوب مصر منذ عقود ليقيم في القاهرة، وتبنّى طفلا وجده تائها أمام المقهى ورباه وأحبه أكثر من ولده الحقيقي، ومرورا بفتاة أحلام مؤمن الصاوي شروق، وأدت دورها الفنانة الشابة فاتن سعيد، وهى جارة مؤمن في قريته بالصعيد وقدمت منها إلى القاهرة بصحبة والدها القاسي بعد فرار والدتها من والدها الذي جسده الفنان ضياء عبدالخالق الذي يعاقبها يوميا على ذنب هروب أمها الذي لم تقترفه. صناع المسلسل بقيادة المخرج إسلام خيري استخدموا عدة زوايا للتصوير لتكثيف شحنة الحدث الدرامي أهمها الزاوية المنخفضة إضافة إلى هذه الشخصيات، تأتي شخصيات الأب الصاوي والد مؤمن القتيل الذي سافر إلى القاهرة دون علمه وعند غيابه يغادر الأب قريته بالصعيد للبحث عنه في القاهرة لتقوده خطاه إلى معرفة نبأ مصرع ولده، وبرع الفنان علاء مرسي في تجسيد الشخصية في أول تحول له عبر مسيرته الفنية من الكوميديا إلى التراجيديا القاتمة. وهناك شخصيات أخرى تمت صياغتها وتجسيدها ببراعة كشخصيتى جاولي وريشة العاملان في القهوة، ولعب دورهما علاء عوض وحسن أبوالروس. إلى جانب هذه النماذج المتباينة، هناك شخصية “الملك” التي برع في تجسيدها الفنان رياض الخولي، وهو مثل ورقة “الملك” في ألعاب “الكوتشينة” ذات أوجه عديدة يمكن توظيفها في شتى الألعاب بأشكال مختلفة عن بعضها البعض. نعود إلى الشخصية المفتاحية للعمل وتتمحور حولها كل الأحداث، وهي مؤمن الصاوي، فبعد ضربة البداية القوية باكتشاف مقتله تعود الأحداث إلى الوراء عبر شهادات الذين تم استجوابهم في تحقيقات رئيس المباحث حول الجريمة، وتلقي هذه الاستجوابات الضوء حول حلم مؤمن الذي يسكنه منذ كان طفلا بالتمثيل، وأن يصبح نجما في سماء الفن، ما يدفعه للهجرة إلى القاهرة لأداء اختبار تمثيلي أعلن عنه أحد المخرجين، وتستقبله العاصمة بصدمة كبيرة لحظة نزوله من القطار بسرقة حقيبته ومدخراته ليذهب إلى قهوة المحطة ويتعاطف معه المعلم رياض ليسمح له بالمبيت داخل المقهى ثم تتداعى الأحداث التي تؤدي إلى لغز مقتله. استنسخ الفنان الشاب أحمد غزي في أدائه لشخصية مؤمن الصاوي الكثير من مفردات الفنان الراحل أحمد زكي في أعماله الأولى، “طائر على الطريق” و”موعد على العشاء” و”الحب فوق هضبة الهرم”، وبدت جلية في تقلبات شخصية مؤمن العنيفة ولحظات اصطدام الشخصية الحالمة بعنف مع الواقع. تقنيات ماهرة حح استخدم صناع المسلسل بقيادة المخرج إسلام خيري عدة زوايا للتصوير لتكثيف شحنة الحدث الدرامي، وأهمها الزاوية المنخفضة دون مستوى النظر، وهي وضع الكاميرا تحت مستوى العينين، ما يجعلها تصور الشخص أو الموضوع من أسفل إلى أعلى. وتعتبر هذه الزاوية مثالية في لقطات تحتاج إلى تأثيرات درامية قوية، حيث تظهر الصورة بأبعاد متناسقة تبدو كبيرة بشكل ملحوظ، واللقطات المقربة للغاية التي تستخدم للتركيز على جزء معين من الوجه عند تصوير الأشخاص، مثل العينين، للتركيز الكبير على انفعالات الشخصية خلال الحدث الدرامي. يبدو أبطال دراما قهوة المحطة في عالم عبثي مثل شخصيتي أستراجون وفلاديمير اللذين ينتظران السيد غودو الذي لا يأتي في رائعة صمويل بيكيت الخالدة “في انتظار غودو”. هذه المرة كل الشخصيات تنتظر عبثا على قارعة الزمن وتحقيق الحلم الذي لا يأتي، رغم فداحة الثمن الذي يدفعونه من أجل الحلم، هذا الثمن الذي قد تصل كلفته إلى سلب الحياة نفسها. يقف المؤلف عبدالرحيم كمال على قاعدة جماهيرية كبيرة تكونت عبر سنوات من الإبداع الدرامي شكل خلالها اسما كبيرا مستحقا في عالم الدراما المصرية، حيث قدم تحفا درامية شديدة الوهج تستقي سردياتها من صعيد مصر، مثل مسلسل “شيخ العرب همام” و”الخواجة عبدالقادر” وجسد البطولة فيهما الفنان يحيى الفخراني. أبطال دراما "قهوة المحطة" يبدون في عالم عبثي مثل شخصيتي أستراجون وفلاديمير اللذين ينتظران غودو الذي لا يأتي وهما عملان يدوران في حقب زمنية مختلفة من التاريخ، والأول عرض في رمضان عام 2010 تحت عنوان “شيخ العرب همام بن يوسف- آخر ملوك الصعيد”، وتدور أحداثه في القرن الثامن عشر حول الشيخ همام بن يوسف الهواري الذي كان يملك أرضا ممتدة من محافظة المنيا وحتى أسوان بجنوب مصر، وعقد العزم على مكافحة الاحتلال العثماني وحاول الاستقلال بالصعيد تمهيدا لتحرير مصر كلها من المستعمر على غرار حروب الاستقلال التي خاضها فراعنة مصر العليا (الصعيد) لاسترداد الوجه البحري من احتلال قبائل الرعاة “الهكسوس” وانتهت بتحريرها على يد الملك أحمس، لكن مشروع شيخ العرب فشل نتيجة تعرضه للخيانة من أقرب الناس إليه. والتحفة الثانية وهي “الخواجة عبدالقادر” عرضت في رمضان عام 2012 وتدور في أجواء غارقة في الصوفية خلال الحرب العالمية الثانية عبر حكاية “الخواجة” الألماني هربرت دوبرفيلد، الذي اعتنق الإسلام وأطلق على نفسه اسم عبدالقادر، وأقام في الصعيد وعاش تجربة صوفية جعلته يرفض العودة إلى دياره ويقيم في الصعيد. وثيق الصلة بذلك غاص كمال مرة ثالثة في عالم الصوفية الروحي عبر تحفته “‘جزيرة غمام” التي عرضت في رمضان عام 2022 وتدور سرديتها في أوائل القرن الماضي في جزيرة رمزية اسماها “غمام” ويؤصل العمل الكبير قيمة ومعنى التدين وارتياد المسجد على معنى الحب والتسامح الديني بعيدا عن المغالاة والتطرف عبر نسيج درامي عال يجسد التصوف والزهد ويتمحور حول شخصية عرفات التي يجسدها الفنان أحمد أمين، الشخص الزاهد الذي يحاول إعادة تشكيل وجدان أهل جزيرة غمام وهي مكان خيالي رمزي ليربط حبهم للمسجد والعبادة فيه بسمو قيمة الحب والتسامح والتعايش السلمي بينهم، في مواجهة الشيخ المتطرف “محارب” ويلعب دوره الفنان فتحي عبدالوهاب الذي يعمل على ترسيخ مبادئ المغالاة في العبادة ورفض الآخر المختلف عنه، إضافة إلى محاربة الشر الشديد الذي ترمز إليه شخصية “سعدون” ويلعب دوره الفنان طارق لطفي الذي سعى جاهدا إلى تدمير الجزيرة. ونصل إلى جوهر الفكرة الصوفية التي تعدّل من الهرم المقلوب، فهي لا تنكر الطقوس ولا العبادات، لكنها تؤسسها على الحب، تريدك أن تذهب إلى المسجد لأنك تحب الله سبحانه، تريد قلبا يسجد قبل أن تسجد الرؤوس، تريد أن يبدأ الإنسان بحساب نفسه، قبل أن يحاسب غيره، ولا توجد فئة بعينها موكول لها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.