لم تعد الأخبار تظهر لأنها وقعت في الواقع فقط، بل لأنها دُفِعت لتظهر. فالمحتوى الذي يسطع في واجهات الشاشات لا يتقدّم وحده، خلف كل ظهور يد خفية تختار التوقيت، وتضغط الزر، وتدفع القصة نحو الضوء قبل غيرها. هكذا تتحول المنصات إلى مسرحٍ كبير لا نرى فيه سوى الممثلين، بينما يبقى المخرج -بشريًا كان أو خوارزميًا - خارج إطار الصورة، رغم أنه الأكثر تأثيرًا في تحديد ما سيصل إلى الجمهور. المؤسسات الإعلامية لم تغادر المشهد، لكنها فقدت حقّ ترتيب الرحلة التي كان الخبر يمر بها يومًا. فالخبر الذي كان يبدأ من محرر ويمضي عبر مراجعة وتحرير وسياق، أصبح اليوم يُسحب إلى الواجهة من قبل قوة أخرى: جهة تريد الترويج، شخص يسعى للانتشار، أو خوارزمية لا تهتم إلا بما يناسب إيقاعها الخاص. ومع هذا التحول يتلاشى السياق الذي كان يحمي الحقيقة من التشوه، ويصبح الظهور أهم من المصدر ذاته. الجمهور لم يعد يرى اليد التي تختار عنه وتوجّه ما يظهر له. يرى المحتوى فقط، فيظنه طبيعيًا وبلا تدخل، وكأن كل ما يصل إليه صعد بجهده الذاتي. بينما الحقيقة أن كل ظهور هو قرار، وكل غياب قرار أكبر. وهكذا يصبح تشكيل الوعي عملية تُدار خلف الستار، من دون أن يشعر المتلقي بأن وعيه يُعاد ترتيبه عبر نوافذ صغيرة لا يعرف من فتحها. والأخطر أن لا يحاكم المحتوى بصدقه، بل بقدرته على العيش والانتشار. كلمة صاخبة، صورة لافتة، قصة مُعاد تدويرها... كل ما يستطيع البقاء يتقدم، حتى لو فقد أصله أو ابتعد عن الحقيقة. فالمعيار اليوم ليس الدقة، بل القابلية للتداول. وفي هذا العالم تتقلص سيطرة الإعلام، لكنه لا يفقد دوره. فمهمته الجديدة أن يكشف اليد التي تحرك الواجهة، وأن يعيد ترتيب الحكاية قبل أن تبتلعها السرعة، وأن يمنح الجمهور القدرة على رؤية ما يجري خلف المشهد. Hindkhalidalharbi@gmail.com