في ذلك الزمن الجميل، كانت شهادة الابتدائية حدثًا كبيرًا، تُعلن نتائجها عبر الراديو والصحف المحلية، وتُعد أسئلتها في الوزارة، وتُصحح في الرياض، وكان للنجاح طعم خاص وهيبة خاصة. كان الرجال والشباب والنساء يكدحون لتوفير لقمة العيش والحياة الكريمة، وكان التعليم في مقدمة أولويات أولياء الأمور، رغم قسوة المعيشة وقلة الإمكانات. واليوم، وقد توفرت سُبل الحياة من تعليم وراحة ووسائل حديثة، تبقى تلك الأيام شاهدًا على أن قيمة الإنسان في سعيه، لا في وفرة ما يملك. في الثمانينات الهجرية، كانت الحياة تمضي ببساطتها، الأعمال في الرعي والزراعة، والكدح تحت الشمس جنبًا إلى جنب، الرجل والمرأة معًا، في أجواء لا مكيفات ولا مراوح، بل صبر وقناعة وعزيمة. مع أذان الفجر، تستيقظ البيوت كخلية نحل، على صوت الديكة والتكبير، ولا يعود ربّ البيت إلا وقد أعدّت ربة البيت القهوة المبهّرة بالهيل، والتمر، وفناجيل الفخار، وتبدأ خطة العمل من الفجر إلى ما قبل الغروب. وفي المساء، يجتمعون في ساحة العِشّة، يوضع العشاء، وتبدأ السهرة العائلية بابتسامات الحديث، وحكايات الأجداد والجدّات، وجبة أساسية للذاكرة قبل أن تكون للجسد. لم تكن حياتهم تخلو من الفرح، كانت هناك الزيفة، والربخة، وإيقاع قدور الطبخ، وضوء القمر، والنجم الساري، ثم يخلد الجميع للنوم بعد سهرة دافئة. كنا –نحن الأطفال– نحرص على مجالسة الكبار، نستمع إلى قصصهم، وفي كل قصة درس للحياة وعِبرة للزمان. وعندما فُتحت المدارس، وأتحدث هنا عن مدرسة الملك عبدالعزيز الابتدائية بالقوز في السبعينات الهجرية، فرح بها الأهالي، وسارعوا في تسجيل أبنائهم، في عهد مدير المدرسة العم عمر بن جبل، والعم محمد محفوظ –رحمهما الله-. كانت المدرسة من القش، في الحارة الشامية، في بيت العم بلغيث بن محمد الجلبي –رحمه الله– أحد المعلمين الذين تتلمذتُ على أيديهم. كانت حافظات الكتب من القماش، ثقيلة على ظهورنا، وجزء منها مخصص للفطور: نصف قرص دخن فاتر من الليلة السابقة، ولا أنسى بعض الأناشيد التي كنا نرددها بفرح: «أبي اشترى لي ساعة فلم أنم من الفرح بالليل تمشي، وبالنهار لم تقف ولم تسترح» كان معظم المعلمين من الوافدين، وكانت الشهادة الابتدائية هي بوابة المستقبل، تأتي الأسئلة من وزارة التعليم في الرياض إلى إدارة تعليم القنفذة، وتُعاد الإجابات إلى الوزارة للتصحيح، ثم تُعلن النتائج عبر الراديو في برنامج «أفراح وتهاني» لعظيم مكانة هذه الشهادة في ذلك الزمن. كانت أيامًا بسيطة في شكلها، عظيمة في معناها، علّمتنا أن الفرح يُصنع بالقناعة، وأن النجاح لا يكون كبيرًا في الأوراق فقط، بل كبيرًا في القلوب أولًا.