ولماذا هي رحلة؟.. ولم تكن تقاعدا فقط؟... فور صدور قرار تعييني أستاذًا مساعدًا في كلية الطب بجامعة الملك فيصل بالدمام (جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل لاحقًا) في عام 1405هـ، كان إدراكي لطبيعة الحياة المهنية والشخصية مختلفًا. كتبت حينها مقالًا بعنوان «الحاجة إلى التخطيط» في زاوية أسبوعية بجريدة «اليوم»، تشرفت بالمشاركة فيها بالتناوب مع نخبة من الكتاب الرواد الأفاضل: الأستاذ عبدالله شباط، والأستاذ محمد العلي، والدكتور محمد الهرفي، والأستاذ خليل الفزيع، والدكتور علي العبدالقادر. في المقال، قلت: «التخطيط فطرة بشرية فُطر الناس عليها، وهو ضرورة ملحّة كخطوة أولى في أي عمل لضمان أفضل النتائج.. وقد أحست الدول بحاجتها إلى التخطيط على المستوى العام. إلا أن ما يعنينا هنا هو التخطيط على مستوى الفرد، وأهمية ذلك، بما يشمل الإجابة عن تساؤلات جوهرية: ماذا سأكون؟ وكيف؟ وما هي أهدافي في الحياة على مختلف المستويات؟.. على مستوى علاقتي بربي، وعلى مستوى وطني، ومهنتي، ومجتمعي، وأسرتي، ونفسي». احتفظت بقصاصة تلك المقالة طوال رحلتي في الحياة ، وجعلت محتواها نبراسًا ومرجعًا بعد الاستخارة والاستشارة، لتوجيه قراراتي المصيرية ورسم مسار حياتي المتواضعة. لطالما كان الأهم بالنسبة لي هو أن أسعى لتحقيق أهدافي على كافة الأصعدة.. خدمة وطني ، العطاء للمهنة ، المشاركة الفاعلة والتأثير الإيجابي في المجتمع، وأخيرا الدور تجاه الأسرة. وعندما أحسست أنني بلغت ما سعيت إليه، جاء وقت اتخاذ القرار بالتقاعد، ليس بوصفه نهاية، بل مكافأة أستحقها. مكافأة تمنحني الفرصة لإمتاع نفسي، ولإسعاد من حولي من زوج وأهل وأحبة. وختمت المقالة بالقول: «حين تصل إلى هذه اللحظة وتشعر أنك قد أديت رسالتك، يصبح التقاعد قرارًا حكيمًا، لأنه ليس هروبًا من المسؤولية، بل انتقال إلى مرحلة جديدة من العطاء المختلف والسعادة الحقيقية». تبدأ رحلة التقاعد من اليوم الأول الذي تمارس فيه أول عمل رسمي، سواء كان حكوميًا أو خاصًا. عندها تكون قد وصلت إلى محطة المغادرة، تلك التي تؤذن ببداية رحلتك العملية. هذه الرحلة تمر بمحطات متعددة، أبرزها محطة التقاعد الرسمية التي تصادف يوم صدور قرار التقاعد، لكنها لا تنتهي هنا، بل تستمر حتى آخر يوم في عمرك. فالتقاعد ليس نهاية المطاف، بل هو بداية لمرحلة جديدة من العطاء والاستمتاع بالحياة. منذ اليوم الأول لعملك، قرر لنفسك خطة للتقاعد، فهي كأي خطة أخرى يجب أن تكون محددة الأهداف والإطار الزمني. صحيح أن هذه الأهداف قد تكون عامة وغير واضحة في البداية، ولكن مع مرور الوقت، يبدأ هذه الغموض بالانحسار، لتصبح أهدافك أكثر وضوحًا وقابلية للقياس، كما سيصبح الإطار الزمني لتحقيقها أكثر دقة. خلال مسيرتك، ستجد نفسك تراجع خططك باستمرار، وقد تضطر إلى تعديل بعضها، أو إلغاء بعض الأهداف، أو إضافة أخرى. هذا التغيير طبيعي جدًا، فهو نتيجة تغير المعطيات والظروف من حولك أو داخلك. لكن، تذكر دائمًا أن هذا التخطيط لا يعني بالضرورة أن وقت تقاعدك يجب أن يكون محكومًا بالأنظمة والقوانين الرسمية. منذ وقت مبكر، اعمل على تجهيز كل ما ستحتاجه لتقاعدك، سواء من الناحية المادية، او المعنوية، أو من حيث الظروف الأسرية والاجتماعية. لا تدع هذه الأمور للصدفة أو للعشوائية. خطط لتأمين قاعدة مريحة تسندك في مرحلة التقاعد، واجعل هذا الاستعداد مصدرًا للراحة النفسية والنجاح، لتضمن أن تكون المرحلة المقبلة خالية من الاضطرابات والمفاجآت غير السارة. بعد التخطيط والإعداد لمرحلة التقاعد، تبقى هناك ضرورة لاستيعاب بعض الحقائق والتغيرات المتوقعة التي يمر بها أغلب المتقاعدين. هذه التغيرات قد تكون تحديات في البداية، لكنها تصبح أيسر عندما نستعد لها جيدًا ونحدد أساليب التعامل المناسبة معها، مما يجعلها تمر بسلام وراحة بال. لكن في المقابل، لا ينبغي أن نغفل عن الجوانب الإيجابية التي تحملها هذه المرحلة. فالتقاعد ليس فقط تغيرًا أو نهاية لمرحلة العمل، بل هو أيضًا فرصة لنقلات وتحولات إيجابية ترتقي بك إلى أفق جديد من التفاؤل، والراحة، والسعادة الحقيقية. هذه الجوانب الإيجابية ليست مجرد محاولات لتسلية النفس أو مواساتها، بل هي واقع يجب أن نعيشه بعمق ونستمتع به. فالتقاعد يمكن أن يكون بابًا لتجديد الذات، واكتشاف اهتمامات جديدة، وقضاء أوقات أكثر جودة مع من نحب، والعيش بحيوية بعيدًا عن ضغوط العمل. اجعل من هذه المرحلة فرصة للازدهار النفسي والاجتماعي، واملأها بالمعاني العميقة والسعادة التي تستحقها بعد سنوات من العطاء. فالسر في نجاح التقاعد لا يكمن فقط في مواجهته بواقعية، بل أيضًا في اغتنامه كفرصة لبناء حياة مليئة بالرضا والإيجابية. ثم إليك بعد هذا كله هذه الوقفات والخواطر المهم تحس بها وتوقعها ووعيها وبعضها نتاج تجارب شخصية.. * قد تواجه أحياناً بعض التحديات الحركية، الذهنية، أو النفسية، لكن لا تدع هذه الصعوبات تقيدك. تعامل معها بهدوء ووعي، وركز على استثمار القوة التي تتولد بداخلك. اغتنم الفرصة لإعادة اكتشاف ذاتك، واستمر في البحث عن نقاط القوة الكامنة في أعماقك. * ستتحرر من العديد من المسؤوليات والالتزامات التي كانت تقيّدك، وستفتح أمامك آفاق واسعة من الحرية تتيح لك استثمار ثرواتك الثمينة: الوقت، الصحة، والتفكير. هذه الفرصة تمنحك مساحةً أكبر للانطلاق في أجواء أكثر رحابة وإمتاعًا. * اجعل من الوقت أهم رصيد في حياتك، فهو أثمن ما تملكه. إن أحسنت استغلاله بعناية وحكمة، ستجني أرباحًا عظيمة، سواء في أمور دينك أو دنياك، وأنت في هذه المرحلة أحوج ما تكون إلى هذا الربح لتعيش حياةً عامرة بالبركة والنجاح. * عند تقاعدك من عمل كنت فيه مصدر مصلحة للآخرين، خذ وقتك لإعادة تقييم شبكة علاقاتك من الأصدقاء والأقارب، ستكتشف أنهم ينقسمون إلى فئتين: * فئة أولى: أعطتك إشارات مبكرة تنذر بتراجع اهتمامهم بك تدريجياً بعد انتهاء مصلحتهم، بدرجات متفاوتة.. مع هؤلاء، بادر أنت بالانسحاب منهم بهدوء، دون أن تصل بالضرورة إلى القطيعة. * فئة ثانية: أشعروك دائمًا بمودتهم وصدق محبتهم، واستمروا في تقديم إشارات واضحة تدل على أنهم أوفياء. هؤلاء هم ثروتك الحقيقية، فعزز علاقاتك معهم، وكثف تواصلك، لأنهم سيكونون السند الذي تبقى معه باقي العمر. اجعل هذه المراجعة فرصة لبناء شبكة علاقات مبنية على المحبة الحقيقية والوفاء، فهي رصيدك الأهم في هذه المرحلة من حياتك. * راجع قوائم أصدقائك ورفاقك في «البشك والدوريات» بعناية، وأعد تقييم علاقاتك وفق معايير واضحة ومحددة، لتصل إلى دوائر أكثر نقاءً وثراءً: * المجموعات التي تتجاوز الخطوط الحمراء: إذا كنت ترى تجاوزات لا تقبلها أخلاقيًا أو اجتماعيًا، فلا تتردد في إنهاء علاقتك بها فورًا، فالانسحاب منها واجب للحفاظ على قيمك وراحة بالك. * المجموعات التي يسبب تواصلك معها ضيقًا ونكدًا: سواء في الجد أو اللهو، إن كانت العلاقة تنتج عنها مشاعر سلبية أو أعباء نفسية، فمن الأفضل لك أن تُبعد نفسك عنها بلا تردد، فحياتك أولى بالسكينة والراحة. * المجموعات التي لا تضيف لك قيمة إيجابية: إن كانت العلاقة متكافئة لكنها بلا فائدة تُذكر، فابقَ على تواصل محدود وفق ما يناسبك، أو ابتعد عنها إذا رأيت أن وقتك أولى بشيء آخر. * المجموعات التي تثري حياتك علميًا، أخلاقيًا، ودينيًا، وتبعث السعادة والراحة : هؤلاء هم رفاق العمر الحقيقيون. حافظ عليهم، وامنحهم الأولوية في وقتك واهتمامك، فهم مصدر الدعم والإلهام في مسيرتك. اجعل هذا التقييم فرصة لإعادة ترتيب حياتك الاجتماعية، لتبني شبكة علاقات ترتكز على المحبة الصادقة والإثراء المتبادل، بعيدًا عن العلاقات التي تستهلك وقتك أو تفسد مزاجك. * لا تندم على خير قدمته، حتى وإن كان الرد عليه هو الجحود، ولا تتحسر على رقيّ تعاملت به، ولو كان المقابل له الصدود. لأن قيمتك الحقيقية تكمن في أفعالك وأخلاقك، لا في ردود أفعال الآخرين. ثق أن عطاءك سيظل شاهدا على نبلك، وأن رقيك سيظل وساما يزين حياتك. وستقف أمام من يجازي الحسنة بعشر أمثالها، فتفرح بما قدمت، وتسعد بما غرست ، مدركا ان الخير لا يضيع أبدا ، بل يعود إليك اضعافا مضاعفة.. * إن كنت في موقع قيادي، فلا تدع الدهشة تأخذك حين ترى بعض من كانوا حولك أو من أحسنت إليهم ودعمتهم، وخاصة من جاء بعدك ، يتنكرون لفضلك، بل وربما يكيدون لك في محاولات لإثبات أنهم الأفضل، وأنك كنت دون المستوى. هذا السلوك، على الرغم من مرارته، هو انعكاس لطبيعة بعض النفوس التي لا ترى النجاح إلا عبر التقليل من الآخرين. لكن تذكر دائمًا أن قيمتك الحقيقية لا تأتي من آرائهم أو محاولاتهم لتشويه صورتك، بل من أثر قيادتك وأعمالك التي ستظل شاهدة على عطائك. حافظ على هدوئك وثقتك بنفسك، فالقائد الحقيقي يُقيَّم بما تركه من أثر إيجابي وبما غرسه من قيم، لا بما يقوله عنه من يسعى للانتقاص من فضله. * كافئ نفسك ومن شاركك رحلتك، خاصة أولئك الذين صمدوا معك في أحلك الظروف وأصعب الأوقات. اجعل المكافآت جزءًا أصيلًا من حياتك، تُقدمها بكرم وسخاء، سواء كانت معنوية تُظهر التقدير والامتنان، أو مادية تُعبر عن عرفانك بجهودهم. فالمكافأة ليست مجرد رد للجميل، بل هي لغة رفيعة تُعزز العلاقات، وتبني جسور الثقة والولاء.. وغني عن القول احذر اللؤم والغدر والخيانة. * لا تستسلم لفكرة أنك «أديت ما عليك وما قصرت»، ولا تجعلها مبررًا للكسل أو التوقف عن السعي والعطاء.. الحياة تُقاس بمدى استمرارك في العمل والبذل حتى آخر لحظة من عمرك، فاجعل من كل يوم فرصة جديدة لتقديم شيء نافع. وإن كان ما بيدك لا يزيد عن «زرع فسيلة»، فازرعها، لأن العمل الصالح لا يُستهان به مهما كان صغيرًا، وأثره قد يمتد أبعد مما تتخيل. * العمل الخيري هو مسار نبيل يستحق أن تسلكه إذا كنت تمتلك المهارات والرؤية لتحقيق أثر حقيقي، وتؤديه بإخلاص وحب للخير. فهو ليس مجرد نشاط لملء الفراغ أو وسيلة للبحث عن الحضور والظهور. قبل أن تدخل هذا المجال، تأمل نيتك جيدًا وتأكد أن دافعك الأساسي هو المساهمة في بناء مجتمع أفضل وخدمة المحتاجين بصدق. فالعمل الخيري يحتاج إلى الإخلاص والوعي، لا إلى استعراض أو تظاهر. اجعل هدفك العطاء بلا مقابل، لتكون آثار جهودك ممتدة وعميقة، ولتكون أعمالك منبعًا للبركة والخير. * وأخيرا استمر في تطبيق مبدأ.. اعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ولدنياك كأنك تعيش أبدا.