في طفولتي سمعت بعض الشباب يتحدثون فيما بينهم بلغة غريبة على الأذن، وددت أن أتعلمها، لأشعر بما يشعرون به من روحها، بثقة وقدرة وحيلة، وتمكن للتصرف، ودون أن يكشفوا ما يدور بينهم، حتى لأقرب الأشخاص إليهم. وقد عرفت أن قصة تلك اللغة تعود إلى ما يفوق الثمانين عاما! في منتصف ستينيات القرن الهجري الماضي، في مدينة أبها البهية الهائمة المغترة بحلتها الضبابية فوق قمم جبال السروات الجنوبية من مملكتنا الحبيبة، وفي زمن أرياف كان بها الكثير من الألفة والمحبة وقرب الجيرة والتواصل لدرجة اعتبار الحي أسرة كبيرة يعرف كل فرد فيها بقية من يقابلهم ومن يسمع حكاياهم، ويتعامل معهم بكثير من العواطف المجتمعة والشجون. وفي بدايات وجود المدارس الحكومية، يفد إلى مُدرس للصغار أتى من منطقة الحجاز يقال له: الأستاذ عباس، وكان محملا بلغة غريبة كثيرة الألغاز كان يتوق لمزاولتها مع غيره، بمدى عشقه لها، وهي عبارة عن تحويرات وتغيير في أسس اللغة العربية، وتلاعب بالحروف، وربما كانت تلك اللغة معروفة في حينها على نطاق ضيق في بعض حارات منطقة مكة المكرمة. وفي البداية، وفي أوقات الفراغ بين الحصص الدراسية، كان يمازح بها الأطفال في مدرسته، ويتحداهم في معرفة ما يقول، والأطفال دفاتر بيضاء يحلو فيها العلم في الصغر، واللعب جذاب للعقول، واللغة مغرية، فكانت اللغة تصنع حول من يتحدث بها هالة من الثقة والتفرد والغموض، والقدرة على التخاطب مع من يفهمها فقط، ودون أن يفتضح مكنون ما يتحدثون فيه. زمن لا تقنيات ولا قنوات تواصل، ولا مسليات، إلا بما يجده الفتية بينهم من تحد، وهم يحبون الألغاز والتحديات، ويسعون للتمتع بخصوصية تجمعهم، وتصنع المرح في منافسات تجري بينهم، وهم يتعلمونها مهما صعبت دروبها. وأجاد أطفال أبها تلك الحبكات الكلامية، وبسرعة النار تضطرم في الهشيم، جرت اللغة الجديدة على ألسنهم الصغيرة، حتى كثر حولها الهرج والمرج ممن يرفضونها، وتناقل الشباب أسسها وفنونها حتى أصبحت موضة لهم يتبارون في إجادتها والتفنن بمزاياها، بينما استمر أغلبية الكبار لا يفقهون منها إلا ما يتم شرحه لهم. لغة عصرية، ما لبثوا أن أسموها لغة (الرطن الأبهاوي)، لتضحي بعد زمن قصير لغة الشارع المحببة للشباب والأطفال، تشعل عقولهم وطموحاتهم. أما أغلبية الكبار فقد عجزوا عن تفهم معطياتها واعتبروا أن من يتحدث بها لا يعدو كونه عاصيا متمردا على أهله وعلى عادات المجتمع، الذي يسوده الاحترام لكبار السن، فكيف يتم تخطيهم بتلك المراسلات اللفظية المتخطية للحدود. وفي تلك الفترة الزمنية كانت المملكة العربية السعودية فاعلة في تكوين كيانات الجيش والشرطة، وتطويرها بأسس التعليم والتدريب المركز، فتم إنشاء عدد من المدارس والمعاهد العسكرية في كل من الطائف والرياض. وكان لأهل أبها تطلع دائم لمزيد من التعليم، ومزاولة الخدمة في الكيانات العسكرية، فعملوا على تسجيل كثير من أبنائهم في العسكرية، حتى لو كلفهم ذلك غياب أبنائهم الصغار طوال مواسم الدراسة للالتحاق بتلك المدارس والمعاهد. ونتيجة لذلك فقد تعطلت لغة الرطن في المجتمع الأبهاوي، بتعداد من سافروا. ولكنهم لم ينسوها في المدارس العسكرية والمعاهد، التي كانت تجمع أعدادا كبيرة منهم، وممن كان يشعرهم الرطن بالتميز، وبكونهم كتلة متماسكة تشعرهم بتقارب عائلي لصيق يهون عليهم هموم الغربة. وقد لاحظ المسئولون عن بعض تلك المعاهد أن شباب مدينة أبها يتحادثون فيما بينهم بلغة غريبة تدعو للريبة ممن يسمعهم، حيث لم يكونوا قد سمعوا عنها من قبل. ومن طرائف ما يحكى تلك التحقيقات الانفرادية لهم من قبل المسئولين عن أحد هذه المعاهد للتأكد من صحة المعلومة، ولاستيضاح أسس تلك اللغة الغريبة، التي أقلقت الجميع. لغة كان الطالب عن طريقها يتمرد، ويستطيع تمرير أي معلومة لزملائه، دون معرفة المعلمين ومراقبي الاختبارات، حتى أثبت التحقيق أنها مجرد لعبة مراهقين، وأنها يجب أن تتوقف، فأخذت عليهم التعهدات الخطية بعدم العودة لاستخدام تلك اللغة، ومعاقبة من يخالف ذلك، ما جعلها تصاب بشبه ضمور. ومن طرائف ما يحكى عمن استخدموها بعد تخرجهم ممن عملوا على أجهزة اللاسلكي، فكانوا يرطنون بها، زيادة في الحيطة والحذر. وكانت إحدى مميزات تلك اللغة في تلك الفترة الزمنية استغلالها في الغزل والتغزل، سواء بالصوت، أو بالكتابة على أوراق تراسل العاشقين، ودون أن يسمح (الرطن) للعذال بالتدخل. وحقيقة فإن من بقي من أهل ذلك الجيل ما زالوا حتى يومنا، يستخدمونها للتندر على من لا يفهما. وكانت قوانين لغة الرطن تتكون من الآتي: 1. تثبيت الحروف المنقطة كما هي. 2. إذا كانت الكلمة كلها تتكون من حروف منقطة، فيتم قلب حروفها أي (تقرأ معكوسة). 3. التنوين يقلب لحرف نون. 4. يتم تبديل الحروف غير المنقطة فتصور كم هي بسيطة، ولا تحتاج إلا لمزاولة حتى ترسخ.