ضمن مساعيها المتواصلة لتعزيز مناخ الشفافية والمساءلة وإعلاء قيم المحاسبة والنزاهة، ولتوفير أفضل الأجواء للمنظومة القضائية للقيام بدورها في أجواء من الطمأنينة والأمن، صدر مؤخرا نظام حماية المبلغين والشهود والخبراء والضحايا، الذي يمثّل علامة فارقة في مسيرة العدالة السعودية، حيث يتيح للجميع المسارعة بتقديم البلاغات والإدلاء بالشهادة والإفادة دون الرضوخ لأي تهديدات، ويمثّل مظلة متكاملة توفر لهم الحماية القانونية الكافية دون خشية أو خوف من كل أنواع الاعتداءات والانتقام التي قد يتعرضون لها بسبب مساعدتهم الأجهزة العدلية في إحقاق الحق ورد المظالم. فالنظام يتعامل مع كل بياناتهم الشخصية بمنتهى السرية، ويمنع بصورة حاسمة الكشف عنها أو تسريبها، ويعرّض كل من يقوم بذلك لمحاكمة عاجلة يلقى فيها العقاب الرادع الذي يستحقه. ومن أبرز مزايا النظام الجديد أنه جاء شاملا ووافيا، وعالج كل المخاوف وسدّ جميع الثغرات، فقد ألزم جميع جهات الرقابة والضبط والتحقيق في الجرائم المشمولة بأحكامه بإخفاء هوية وعنوان مقدم البلاغ والشاهد أو الخبير، أو حتى الضحية، في المراسلات أو المحاضر وجميع الوثائق، عند الاقتضاء أو بناءً على طلبهم بشكل يحول دون التعرف عليهم. ولتحقيق تلك الغاية أجاز النظام استخدام وسائل التقنية الحديثة مثل الاتصال المرئي والمسموع لتلقي الشهادة عن بُعد، ومنح المحاكم الحق في استخدام تقنية تغيير الصوت والصورة لحماية المشمولين بالنظام. كما يمكن في حالة الضرورة سماع شهادة الشهود ومناقشة الخبراء في أي من الجرائم المشمولة بأحكام النظام بمعزل عن المتهم ومحاميه، ويكتفى بإبلاغهم بمضمون الشهادة وتقرير الخبرة دون الكشف عن هوية من أدلى بهما، إضافة إلى العديد من الإجراءات التي تشجع هؤلاء على الإفادة بمعلوماتهم وشهاداتهم دون خوف بما يرسخ مفاهيم العدالة والشفافية والمحاسبة. كذلك فقد فصّل النظام جميع الإجراءات، وأجاز للمحكمة اتخاذ ما تراه من تدابير خاصة أثناء التقاضي لحماية المبلِّغ أو الشاهد أو الخبير أو الضحية في حال توفّر ما يبعث على الاعتقاد بإمكان تعرّض أي منهم للخطر. كما تنص المادة التاسعة على ضرورة تقديم صاحب البلاغ، أو الشاهد، أو الخبير، أو الضحية لطلب مُسبّب من أي منهم لتوفير الحماية، أو توصية من الجهة الرقابية أو من جهة الضبط أو من جهة الاستدلال أو حتى من جهة التحقيق أو من المحكمة بناءً على المعلومات المتوافرة حول مسوّغات توفير الحماية. ومن أبرز مزايا النظام الجديد وعناصر قوته هو أنه يرسي القواعد النظامية لطرق وإجراءات البلاغات المقدّمة بالصورة التي تعزّز النزاهة وتقود لخفض مستوى الفساد والقضاء عليه نهائيا بإذن الله. كما يشجّع المبلغين على المبادرة والتفاعل مع الجهود الحكومية لاجتثاث هذا الوباء، ويوضح لهم مسار البلاغات وآلية التبليغ ودور الجهات المعنية بمكافحة الفساد وتعزيز النزاهة فيما يتعلق بحماية المبلغين وعدم مضايقتهم في أماكن عملهم سواء عن طريق الإقصاء، أو الفصل، أو عدم الترقية، أو أي سلوك يندرج تحت التعسف الإداري، عند معرفة هويتهم من قبل رؤسائهم أو جهات عملهم. كذلك فإن مظلة الحماية التي يوفرها النظام الجديد لا تقتصر فقط على أصحاب البلاغات والشهود والخبراء والضحايا، بل تشمل عائلاتهم وجميع أقاربهم. أما ما يتصوره البعض عن احتمال تزايد نسبة البلاغات الكيدية بعد إقرار القانون فقد وضع المشرّع ذلك في حسبانه، فكلنا نعلم أن النظام القضائي في السعودية يقوم على قاعدة «المتهم بريء حتى تثبت إدانته»، ويتعامل بها في كل الحالات ولا يتم أخذ الناس بالشبهات ولا تترتب على أي نوع من البلاغات أي آثار قضائية أو قانونية ما لم يتم التأكد من صحتها وتقديم المتهمين للمحاكمة ومنحهم كل الفرص للدفاع عن أنفسهم. لذلك فإن حقوق كل الأطراف مكفولة بموجب هذا النظام وغيره من بقية الأنظمة. كذلك فإن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التي ترد إليها البلاغات وتتولى متابعتها والتأكد من صحتها لم يعرف عنها التعجل، فهي تضم عناصر قانونية مشهود لها بالكفاءة والمقدرة، وتحكم طبيعة عملها آلية واضحة، يتم بموجبها تقييم البلاغات الواردة، ومن ثم يبدأ جمع الحيثيات اللازمة، ولا يتم تجاهل أي بلاغ حتى لو كان مقدمه لا يملك الأدلة الكافية. فالهيئة تتحرى عن البلاغات بطرق احترافية، وإذا وجدت ما يفيد رجاحتها فإنها تعمل على استكمال الأدلة، وتبحث عنها قبل التحرك بصورة رسمية أو مخاطبة الجهات عن وجود شبهات الفساد فيها، توفيرا للجهد، وضمانا لجدية العمل. الخلاصة التي ينبغي على الجميع استيعابها وإدراكها هي أنه لم يعد هناك أي مجال للفساد، وأن عهد استغلال النفوذ قد ولى إلى غير رجعة، وأن المملكة اختارت الشفافية والنزاهة طريقا لها ولن تحيد عنه، وأنه لا أحد فوق القانون، ولا توجد حصانة لفاسد أو مرتش، وأن الباب مفتوح على مصراعيه لكل مواطن شريف كي يسارع للإبلاغ عن أي ممارسات سلبية، وبذلك يكون قد ساهم في الحفاظ على المال العام وعلى مصلحة بلاده.