خلال مسيرتي الممتدة في وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد، التي قاربت الربع قرن، معتزًا بما قدمتُه من خدمة لديني وملكي ووطني، مررت بالعديد من القصص التي تظل محفورة في الذاكرة. إلا أن واحدة من تلك القصص تبقى الأعمق والأكثر تأثيرًا. قبل أكثر من خمسة عشر عامًا، جاء إلى مكتب الأوقاف رجل مسن يحمل صكًا قديمًا لعقار سُجلت قيمته «ريال واحد»، وهو أمر أثار فضولي، خصوصًا أنني أتابع أحوال العقارات وأسعارها بحكم نشأتي في عائلة تجارية عريقة، لكن هذه الحالة كانت استثنائية. سألتُ زميلي الذي كان قد تولى إتمام إجراءات الوقف عن سر هذا التقييم الرمزي، فأجابني: «سألتُ الرجل ذات السؤال، فأجابني بابتسامة تعكس عمق الذكريات: لقد وهبني صديق العمر هذا العقار دون مقابل، وأعطاني الصك وسلمني العقار، ووصاني وصية بأن أعتني ببناته من بعده». كان السعر في الصك مجرد إجراء قانوني رمزي لإتمام إفراغه العقار له، أما الوصية فكانت شفهية، وهي بمثابة عهد عظيم قطعه الرجل على نفسه. ظل الرجل يفي بوعده لسنوات عديدة، يعامل بنات صديقه كأنهن بناته، حتى كبرن وتزوجن وأصبحن معلمات يعتمدن على أنفسهن. وعندما شعر أن الأمانة قد أُديت بالكامل، جمعهن ذات يوم، وقال: «لقد جاء وقت إعادة الأمانة، فقد عملت بما أوصاني والدكن». لم يتمالك الجميع مشاعرهم، وامتلأت عيون البنات بالدموع تقديرًا لما قدمه، وقلن له: «هي لك، فقد أدَّيت دور الأب وأكثر.» ولكن الرجل أصرَّ بعزة وشرف قائلاً: «معاذ الله أن آخذ ما ليس لي». أمام إصراره، اقترحت البنات أن يتم تحويل الأرض إلى وقف لله، على روح والدهن، ليظل الأجر مستمرًا عبر الأعمال الخيرية. فأكمل الرجل وراجع إدارة الأوقاف بفرع الوزارة بمنطقة الرياض، التي كانت تتولى إجراءات الوقف قبل أن تنتقل مهامها إلى الهيئة العامة للأوقاف، حيث تتولى الإدارة آنذاك دائمًا تسهيل إجراءات كل من يرغب في تخصيص ممتلكاته في سبيل الله. وبعزيمة وإخلاص، أكمل الإجراءات بكل دقة، ماضيًا في إتمام الوقف وفق الشروط والأحكام المنصوص عليها، ليتمكن بذلك من تحقيق النية السامية التي بذل لأجلها هذا العمل، ويخلد الأجر المستمر عن روح صاحب العهد، مضيفًا إنجازًا آخر يعكس أعلى معاني الوفاء والإخلاص. تذكرتُ كلمات الإمام الشافعي التي تُجسد الوفاء الصادق: «إذا المرء لا يرعاك إلا تكلفًا فدعه ولا تكثر عليه التأسّفا» وتذكرتُ أيضًا قول الإمام علي بن أبي طالب، الذي يُجسد معنى الصداقة الحقيقية: «سلامٌ على الدنيا إذا لم يكن بها صديقٌ صدوقٌ صادق الوعد منصفا» تظل هذه القصة تذكيرًا لنا جميعًا بأن الوفاء بالعهد وإنجاز الوعد لا يعبر فقط عن التعامل مع الممتلكات، بل عن علاقة صادقة تقوم على الثقة والاحترام المتبادل، والصداقة الحقيقية التي لا تُقدر بثمن. وعلاقات الأخوة الحقيقية التي تجسد معاني الأخلاق الإسلامية. فالوفاء بالعهد وإنجاز الوعد هو مبدأ نبيل يُرسي قيمًا راسخة في التعاملات الإنسانية، ويُعد تذكيرًا لنا جميعًا بأن العهود لا ينبغي أن تُكسر بل يجب أن تُحفظ وتُحترم، حتى في أصعب الظروف. كما أن تحويل العقار إلى وقف لله يعكس أعلى معاني الإخلاص، ويُظهر كيف يمكن تحويل الأمانة والوفاء إلى عمل صالح يستمر أثره عبر الأجيال.