كانت ولاية دونالد ترامب الأولى بمثابة كابوس مزعج للقيادة الفلسطينية والشعب الفلسطيني، لاتخاذه قرارات مجحفة بحق الفلسطينيين من نقل السفارة إلى القدس وقطع المساعدات عن الأونروا وعن السلطة الوطنية وإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن كإجراء عقابي لرفضها صفقة القرن، وصلافته الكبيرة في الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان المحتل، ضاربا بكل القرارات الأممية عرض الحائط، الأمر الذي دعا حلفاء دمشق وخصومها في آن واحد إلى إدانة تصريحات ترامب. كما وصف الرئيس محمود عباس الخطة الأميركية المعروفة باسم “صفقة القرن” بأنها تشبه “الجبنة السويسرية” ولا تحقق السيادة للشعب الفلسطيني. لكن ترامب اليوم أمسى ثاني رئيس أميركي يعود إلى البيت الأبيض رغم مغادرته له سابقا، فهو يوضع مع جروفر كليفلاند، الذي عاد إلى الرئاسة عام 1892 للمرة الثانية، في قائمة مميزة تضم اسميهما فقط. وإذا طرحنا على أي مواطن أميركي عادي سؤالا مباشرا عن الأسباب التي ساهمت في إياب ترامب للتربع على سدة الرئاسة، سيبادرنا بالجواب التالي “إنه الاقتصاد”. ◄ لا يجب المبالغة في التفاؤل بحقبة ترامب المقبلة وتأثيرها على منطقتنا العربية، إذا وضعنا في الحسبان أن الهجمات على منشآت أرامكو في السعودية حدث في سبتمبر من العام 2019 إبان ولايته الرئاسية الأولى من المعروف عن دونالد ترامب أنّه يُخضِع السياسة للاقتصاد والمال، وليس العكس، حيث تكون السياسة في خدمة الاقتصاد، فهو لا يستنزف الميزانيات في خوض الحروب، فالأصل عنده هو المال والصفقات الرابحة، أمّا السياسة فليست سوى رافد للاقتصاد. وبالرغم من أنّه رجل أميركا القوي فإنه لا يفضل الحروب لأنّ كلفتها باهظة جدا، عسكريا واقتصاديا، لذلك يستبشر الكثير أن تتوقف الحروب في الشرق الأوسط بعد أن فاز بالرئاسة. يأتي هذا التفاؤل في ظل العلاقة الاقتصادية الوثيقة التي تربط ترامب ودول الخليج العربي وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية التي كانت أوّل دولة يزورها حين فاز بالانتخابات للمرة الأولى، ووقّع معها على صفقات واتفاقيات تتجاوز 400 مليار دولار، ومن ثم إطلاق التحالف العربي خلال القمة العربية – الأميركية في الرياض في مايو 2017. وينسحب هذا التفاؤل على الحرب الأوكرانية أيضا، وخير آية على ذلك تصريحات رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، الذي أكد أن الاتحاد الأوروبي لديه شكوك بشأن استمرارية دعم أوكرانيا بعد فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية. كما شدد على أن “الأوروبيين أصبحوا أقل استعدادا” لتمويل صراع أهدافه غير واضحة بالنسبة إليهم، وهذا يفتح الباب على مصراعيه للتفاوض مع روسيا، ووقف الاستنزاف العسكري والاقتصادي والمالي، الأمر الذي يعود بالفائدة على الجميع، ويؤسس لعودة الهدوء إلى المنطقة ككل. يعلم ترامب أن القطب الأميركي الواحد مازال مهيمنا على العالم، ومن هذا المنطلق هو يعاقب كل من يخالفه كلّ حسب طريقته، حيث قام بتمزيق الاتفاق النووي مع إيران وفرض عليها عقوبات مشددة، وأمر بقتل قاسم سليماني، ثم تحداها علانية أن تستهدف المصالح الأميركية حين قامت وزارة الدفاع بتحديد 52 موقعا داخل إيران لاستهدافها “بقوة كبيرة وسرعة كبيرة” حسب تصريح ترامب. “والعدد 52 إشارة إلى عدد الرهائن الدبلوماسيين الأميركيين الذين احتجزتهم إيران بعد الثورة الإسلامية في السفارة الأميركية بطهران.” أمّا تركيا فقد تعامل معها بشكل مختلف، حيث أجبرها على إطلاق سراح القس الأميركي أندرو برونسون عنوة، وأرغمها على دفع ثمن باهظ لاحتجازه بعدما هددها بفرض عقوبات كبيرة عليها، كما رفض حتى مبادلته بفتح الله غولن المعارض التركي الذي عاش في الولايات المتحدة. ◄ التوجه الإسرائيلي – الأميركي التالي سيكون باستهداف طهران اقتصاديا والمس بمصالحها الحيوية بشكل خاص، مع استبعاد أي استهداف عسكري لها ولكن كيف ستكون طريقة تعامل ترامب مع إيران، وخصوصا بعد عاصفة التغييرات في منطقة الشرق الأوسط، والتي حدّت من نفوذ طهران الإقليمي، فكل ما حدث منذ اللحظة الأولى لهجوم طوفان الأقصى إلى اليوم صبّ في مصلحة إسرائيل، وكان خير ذريعة لها كي تحقق أهدافها ليس لهذا العقد الحالي فقط، بل لعدة عقود زمنية مستقبلا، فهي تكاد تنهي وتنتهي تماما من أي فصيل يرتبط بإيران في دول الطوق، ربما قد يشكّل لها أي تهديد، فقيام إسرائيل باغتيال قادة المقاومة واستهداف بنيتها التحتية ومحو بيئتها الحاضنة، ما هو إلا رسالة شديدة اللهجة تهدد وتتوعد من قد يأتي من نفس الخلفية الحزبية والحاضنة الشعبية وتحذّره من السير في طريق طهران في المستقبليْن القريب والبعيد. وعليهِ فالاستثمار الإسرائيلي، ومن خلفه الأميركي، في سياسات طهران في الشرق الأوسط مازال قائما على قدم وساق، وإن خفّت تداعياته لأنه أوشك على تحقيق جميع أهدافه في عودة الكثير من البلدان العربية إلى القرون الوسطى، وأن يتلاشى أي تهديد عسكري لتل أبيب في عشرات السنوات المقبلة. فبنك الأهداف الإسرائيلية في غزّة ولبنان أوشك على النفاد، بعدما اغتالت إسرائيل أكثر من تسعين في المئة من الشخصيات القيادية والمؤثرة وصاحبة الكاريزما والتي كان بإمكانها أنّ تؤثر على الشارع وتستنهض الكوادر، في كل من حماس وحزب الله. ◄ من المعروف عن دونالد ترامب أنّه يُخضِع السياسة للاقتصاد والمال، وليس العكس، حيث تكون السياسة في خدمة الاقتصاد، فهو لا يستنزف الميزانيات في خوض الحروب فالتوجه الإسرائيلي – الأميركي التالي سيكون باستهداف طهران اقتصاديا والمس بمصالحها الحيوية بشكل خاص، مع استبعاد أي استهداف عسكري لها، ووضعه على الطاولة للابتزاز والتهديد، إلا إذا هي بادرت وردت على الهجوم الإسرائيلي الأخير عليها، وبالتالي ستزداد العقوبات الاقتصادية على طهران. كل هذه الإجراءات ستؤدي حتما إلى إضعاف الحكومة الإيرانية وربما ستدفع الشعب الإيراني للنزول إلى الشارع كما حدث في العام 2019. وقد تشهد المرحلة المقبلة المزيد من الاستفزازات الإسرائيلية لطهران وفي المقابل المزيد من ضبط النفس والصبر الإستراتيجي من قبل إيران. وفي ظلّ الأحداث المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط كان من اللافت الخطاب الإخواني المناقض لنفسه، هذا الخطاب المسخر ليبرر لإيران تفاديها المواجهة العسكرية مع إسرائيل، لأن إيران دولة إقليمية كبرى وجلّ تفكيرها منصب على بقاء مؤسساتها والحفاظ على بنيتها التحتية وسلامة مواطنيها ومرافقها العامة. وفي اتجاه معاكس لا يحق للدول العربية ما يحق لطهران من العقلانية السياسية والابتعاد عن ويلات الحروب ودخول المعارك الخاسرة، لذلك عند الإخوان وحلفائهم، كل من يدعو إلى تجنيب إيران ويلات الحرب والكوارث هو شخص وطني وعقلاني، لكن من يطالب بنفس الطلبات بالنسبة إلى لبنان أو السلطة الفلسطينية أو الدول العربية هو في قمّة العمالة والانبطاح! عجبي. وبالعودة إلى القضية الفلسطينية، تتوجس القيادة الفلسطينية من دونالد ترامب وتوجهاته المنحازة لإسرائيل بشكل أعمى، ولكن في ظل المذبحة الحاصلة والتعاطف العالمي الكبير مع القضية الفلسطينية، ورهن القيادة السعودية للتطبيع مع إسرائيل بإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو – حزيران للعام 1967، والعلاقة الوثيقة التي تربطها بالرئيس المنتخب حديثا وشراكتها الاقتصادية معه، قد يظهر في الأفق القريب بعض الدعوات لانعقاد مؤتمر للسلام يكون عرابه دونالد ترامب، له نفس فكرة مؤتمر مدريد للسلام في العام 1991، لكن بصيغة موسّعة بشكل أكبر، تحضره السلطة الوطنية رفقة الدول العربية الداعمة والمساندة للحقوق الفلسطينية مع حضور بعض القوى الإقليمية كإيران وتركيا، وبحضور الولايات المتحدة وإسرائيل وممثلين عن الاتحاد الأوروبي، سيمهد هكذا مؤتمر لتسوية الخلافات في المنطقة وترسيم الحدود في بعض البلدان العربية وتحديد خارطة إسرائيل وحدودها حتى لا يمتد استيطانها إلى الدول العربية المجاورة، بما أن “مساحة إسرائيل تبدو صغيرة ولطالما فكرت في توسعتها،” حسب وصف ترامب ذاته. تأسيسا على ما سبق، لا يجب المبالغة في التفاؤل بحقبة ترامب المقبلة وتأثيرها على منطقتنا العربية، إذا وضعنا في الحسبان أن الهجمات على منشآت أرامكو في المملكة العربية السعودية حدث في سبتمبر من العام 2019 إبان ولاية دونالد ترامب الرئاسية الأولى، ولم يحرّك ساكنا. وأن تصريحاته بخصوص القضية الفلسطينية تتشابه مع تصريحات القادة الإسرائيليين وربما تتجاوزها في بعض الأحيان.