×
محافظة حائل

المقامرة العسكرية بالشعوب

صورة الخبر

كلما مرت الأيام زاد اقتناعى بأهم خلاصة خلصت إليها من حياتى وخبرتى الطويلة والصعبة والمؤلمة وهى أن القائد الراشد هو الذى يجلب الأمن والسلام والكرامة لشعبه ما استطاع لذلك سبيلاً، لا أن يدمرهم ويتسبب دون قصد فى قتل الآلاف منهم -حتى لو كانوا شهداء- أو جرح عشرات الآلاف منهم حتى لو ارتفعت درجاتهم فى الآخرة، لأنه سيحاسب على دمائهم وعلى قراره إن كان خاطئاً. فالقائد يساوى القرار الصحيح الحكيم الرشيد، الحرب فى وقتها وبطريقتها الصحيحة، والسلام فى وقته وبطريقته الصحيحة، أما أن يدخل شعبه فى مواجهات عسكرية غير محسوبة، أو مغامرات عسكرية تدمر إمكانيات شعبه وتعيده إلى نقطة الصفر بعد أن يكون قد وصل إلى التحرر النسبى والتحضر العلمى والاجتماعى وقطع فيهما شوطاً كبيراً لا بأس به، فهذا هو القرار الخطأ. ولنا فى معركة الجسر المثل العظيم، حيث قاد المسلمين فيها قائد مخلص شجاع، ولكنه كان شديد الاندفاع فى قراراته العسكرية فدخل معركة الجسر ضد الفرس دون حساب جيد للقرار، واندفع بشجاعته وحماسته المعهودة بطريقة عسكرية خاطئة غير معهودة، وكان المثنى بن حارثة القائد العسكرى المخضرم والحكيم فى نفس الوقت قد نهاه عن ذلك فاستشهد نصف الجيش المسلم وفر الباقون، فتسلم المثنى قيادة الجيش ولم يبق معه إلا ألفان فانسحب بهم انسحاباً عسكرياً منظماً ورائعاً. وكان أبوعبيدة قد خالف نصيحة الصحابة المخضرمين عسكرياً بعدم عبور الجسر، ولكنه أصر على عبور الجسر حتى لا يتهم جيشه بالجبن، وكان المثنى بن حارثة قد نصحه من قبل وشدد عليه بعدم عبور الجسر لأنه يؤدى إلى منطقة قتل أعدها الفرس لجيش المسلمين وقال له «إنما تلقى بنا إلى الهلكة»، ولكنه ضرب بنصيحته عرض الحائط واندفع بقواته ليوقع جيشه فى كمين محكم للفرس أوقع مقتلة غير مسبوقة للجيش المسلم، ولما تولى المثنى بن حارثة أنقذ البقية الباقية من الجيش، ولذلك عد العسكريون الانسحاب المنظم الصحيح كمعركة حربية مثل معركة الهجوم والدفاع والمعركة التصادمية. ويخلط الكثيرون بين صلاح وتقوى ووطنية القائد وقراراته الخاطئة، أو بين قراراته الخاطئة ونيل الشهادة، أو أنه كان سبباً لنيل جنوده الشهادة، فالجنود ينالون أعلى الدرجات والقائد يحاسب دنيوياً وأخروياً على قراراته العسكرية أو الإدارية الخاطئة، وليست مهمة القائد أن ينال أكثر جنوده الشهادة بل مهمته النصر وحفظ أرواحهم ما استطاع لذلك سبيلاً وحسن قراءة المآلات. ولعل أفضل ما فعله البريطانيون فى بداية الحرب العالمية الثانية هو النجاح الباهر فى سحب قرابة 200 ألف جندى بريطانى عبر المانش حاصرهم جيش هتلر وكاد يدمرهم تدميراً، وهؤلاء هم الذين حققوا النصر على جيوش النازية فى آخر الحرب العالمية الثانية، ولذلك فإن تشرشل كان أكثر حكمة ودهاءً وتريثاً من هتلر، الذى كان يندفع بجيشه اندفاعات مجنونة فى اتجاهات كثيرة ويحارب على عدة جبهات. صدام حسين كان رئيساً وطنياً خدم العراق وطور كل منشآته ولكنه وقع فى خطأين قاتلين، هما دخوله فى حرب عبثية لا جدوى منها مع إيران كلفته الكثير والكثير، ثم دخوله بجيشه للكويت، وذلك أدى إلى تدمير جيشه وبلاده واحتلالها من أمريكا وإيران، فضاعت العراق وقسمت ونهبت كل مقدراتها. وكذلك القذافى الذى أدخل بلاده فى مغامرات ومقامرات لا نهاية له مما أدى فى النهاية إلى تدمير بلاده وتقسيمها وضياعها، وصدام والقذافى كانا مخلصين لوطنيهما ومحبين للعروبة والإسلام. والمتابع لسيرة الرسول «صلى الله عليه وسلم» يجد أنه لم يحارب قط على أكثر من جبهة، فلم يتوجه لحرب خيبر حتى أنجز صلح الحديبية وأمن جبهته مع قريش، ولم يدخل فى أى مواجهة مع قبائل غطفان وغيرها حتى فتح مكة، التى كانت الحليف الأعظم لها، ودخلت قريش فى دين الله أفواجاً. ومنح رسول الله «صلى الله عليه وسلم» أعظم وسام عسكرى فى التاريخ لخالد بن الوليد بعد نجاحه فى معركة انسحاب رائعة، حيث نجح فى سحب جيشه من مؤتة بمعركة انسحاب تستحق أن تدرس حتى اليوم فى المعاهد العسكرية، ونهى الناس عن قولهم «يا فرار يا فرار»، وقال «بل هم الكرار إن شاء الله»، وصدق الزمان نبوءة الرسول فى خالد بن الوليد الذى أصبح أعظم قائد عسكرى فى تاريخ الإسلام والذى دوخ وهزم وأذل جيوش الفرس والروم، ولم يهزم قط. عدم الدخول فى المقامرات والمغامرات العسكرية الفاشلة أهم صفات القائد المخضرم، الذى يأبى أن يدمر شعبه أو يهلكه أو يوقعه بين قتيل وجريح أو يزيده عنتاً على عنته، فقراً على فقره.. اللهم احفظ بلاد العرب والمسلمين، وانشر السلام والأمان فى ربوع العالم كله.