إن علاقة الأدب بالمجتمع هي بالذات تشمل علاقة المثقف / الأديب بمجتمعه ووعيه لما يجري حوله وكشفه، ما يُخص المجتمع وما يخص الآخرين، إذاً ما الأدب ووظيفته؟ وكيف يمكنه أن يحقق تلك الوظيفة التي حملها على عاتقه؟ فالأدب فن من الفنون التي تعكس مظهراً من مظاهر الحياة الاجتماعية، ووسيلته في التعبير عن تلك القيم المعبرة، هذا التعريف البسيط يلتقي بتعبير آخر "أنه تعبير عن موقف إنساني أو تجربة إنسانية ينقلها الأديب، ويأمل منها المتعة والفائدة"، كما يمكن أن يُعرف بـ "Criticism of life A". فالتعريف يؤكد دور الكلمة وأثرها في التعبير ومكانتها لما فيه سحر وقوة مؤثرة في نفس المتلقي، وهذه الكلمة وراءها مبدع مرهف الحس، ورقيق الطبع، شديد الحساسية، يرسم بعباراته أرقى الجمل التي تعبر عن مكنون الذات الإنسانية. فالأدب يمتلك المقدرة على ربط الماضي بالحاضر من خلال تقديمه لرؤية نقدية يغني فيها تجربته، ويصوغ رؤيته للمجتمع والإنسان في إطار علاقة تفاعلية بين مكونات تلك العلاقة وتتأثر بالوسط الاجتماعي التي تدور فيه أحداث تلك الرؤية. وبالتالي، فإن الأدب انعكاس لرؤية الأدباء وتصوراتهم المستقبلية، فها هو المبدع "يوسف إدريس" يعبر عن علاقته بالمجتمع "أما نحن فإننا ندعو من أجل تدعيم هذا الأدب وتركيزه، وتوضيح اتجاهاته إلى سلوك سبيل الالتزام، سمّوه ما شئتم، ذلك هو الأدب الحي الذي ينبع من المجتمع، ويصب فيه فيكون صورة حية له، وذلك هو الأديب الذي يصهر عواطفه جميعها في بوتقة الناس وحاجاتهم، فينفذ إلى أغوار مشكلاتهم فيصدق في الإحساس، وفي التعبير عنها، والمشاركة في إيجاد الحلول لها"؛ لذا نقدم على المستوى العالمي واحدة من أبرز الروايات العالمية، التي تقدم مضمون تلك الرؤية عبر الكلمة الجذابة لكل معاني المتعة والقيمة في مسار التجديد عبر الأفكار الخيالية، التي يمكن أن تشكل أدوات إجرائية للتعامل مع الواقع الاجتماعي من خلال بانوراما درامية، تدنو من إيجاد الروابط الفعلية بين الخيال والواقع، والتي يجسد منها "كوميديا الموقف" Situation comedy، ويكون فيه الموضوع الرئيسي "The main theme" متعدد الأبعاد بحسب نوعية العمل الأدبي، وباختلاف روائع الأدب العالمي. ومن تلك الروايات.. الرواية الإسبانية "دون كيشوت" Don Quijote - de la Mancha؛ حيث احتفل العالم بأسره في يناير/كانون الثاني 2015 وصهللت مدن: مدريد، وباريس، وبروكسل، ودالاس، ومكسيكو سيتي، وسان بطرسبورغ، بمرور 400 عام على ظهور الجزء الثاني من رواية "دون كيشوت" (دون كيخوته بالإسبانية)، وهي رواية من التراث الأدبي العالمي للكاتب الإسباني ميجل دي سرفانتس (1547- 1616)، ونشرها في جزأين 1605، 1615، وتعد واحدة من الروائع العالمية مع إلياذة هوميروس، وكوميديا دانتي الإلهية، وفاوست لجوته، وتعد أول رواية حقيقية في تاريخ الأدب الغربي كله، وطُبعت مئات المرات باللغة الإسبانية الأم، وبيع منها ملايين النسخ، وتُرجمت للفرنسية والإنكليزية والإيطالية ثم نُقلت لمعظم لغات العالم، وتُرجمت متأخرة للعربية، وقد حظيت الرواية باهتمام العديد من النقاد والأدباء الذين أثروا الساحة الأدبية بآرائهم حول محتوى تلك الرواية ومنهم: "ميلان كونديرا"، (روائي فرنسي من أصل تشيكي ومن أشهر الروائيين اليساريين). "دون كيشوت"، هي الرواية الأهم في العصور كافة؛ ذلك أن طواحين الهواء التي انبرى دون كيشوت وتابعه سانشو لمحاربتها ليست سوى المفتتح الرمزي للعصور الحديثة التي ينازل الإنسان فوق ساحتها الوحش الموزع بين أنياب الآلة وأنياب العبث واللامعنى، وهو المؤسس الحقيقي لعالم كافكا الجحيمي الذي كان عليه أن ينتظر عقوداً طويلة؛ لكي يلتقط رسالة سلفه الإسباني ويصفي حسابه مع بقايا الأمل الراشح من حروب دون كيشوت، أما من أبرز شخصيات تلك الرواية: * دون كيشوت: نبيل إسباني ناهز الخمسين من العمر، ولم يتزوج، نحيف وطويل، ويعيش في إحدى قرى "لامانشا"، إبان القرن السادس عشر، واستغرق في قراءة الروايات الخيالية المنتشرة حينذاك، والتي تدور أحداثها حول الفروسية والبطولة والأعمال الخارقة "الفارس الجوال"، كثير الترحال سعياً لمغامرات جديدة، أو لتحقيق رغبة محبوبته المستحيلة، ومن كثرة قراءاته في كتب الفروسية كاد يفقد عقله، وبلغ به الهوس حداً جعله يفكر ليعيد دور الفرسان الجوالين بمحاكاتهم والسير على نهجهم، لنشر العدل ونصرة المضطهدين والضعفاء. في مغامرته الأولى أنقذ دون كيشوت، فتى تعرض للضرب من سيده لإهماله في رعي الأغنام، ثم تعرض لمجموعة تجار أراد أن يجبرهم على الاعتراف بأن حبيبته دولوسينيا، وهي في الواقع فلاحة عامية سوقية ذات وجه شائه هي أجمل امرأة في الدنيا، ولكن كان من بين التجار من لا يحب المزاح، فانهال على الفارس بالضرب حتى أُغمي عليه، ويأتيه من يساعده على العودة لبيته، وهناك يجد ابنة أخيه والقس والحلاق وقد قرروا إحراق تلك الكتب التي تسببت في جنونه، ويخرج لمغامرته الثانية بعد أن يُقنع جاراً له من الفلاحين البسطاء -سانشو بانزا- بمرافقته كتابع له وحامل لسلاحه وشعاره، مقابل أن يعطيه جزيرة أو دوقية ليحكمها بعد أن ينتصر، ويصدقه سانشو ويضع خرجه على حماره، ويسير خلف سيده الجديد. استخرج من ركن خفي بمنزله سلاحاً قديماً متآكلاً كان لأجداده، فأصلح منه ما استطاع، وأضفى على نفسه درعاً، وحمل رُمحاً وسيفاً، وكانت تلك الأسلحة تنقصها خوذة، فتدارك الأمر بصحن حلاقة أخذه من حلاق متجول وجعله خوذة، وركب حصاناً هزيلاً أطلق عليه: روثينانته، أي "أول حصان". وتتوالى مغامرات دون كيشوت على حصانه الهزيل، وخلفه تابعه على حماره، فيهاجم طواحين الهواء معتقداً أنها شياطين بأذرع ضخمة وبأنها مصدر الشر في الدنيا، كما يظن قطعان الأغنام جنوداً فيحاربها، وينقض على عرض لدُمى متحركة ويقطع رأس الجنود - الدمى؛ ليمنعهم من اعتقال عاشق وأميرته وهما هاربان لأحضان الحرية، ثم يعوّض بعدها صاحب الدُّمى بسخاء لقاء "دين الشرف"، وتتوالي هزائمه في كل المعارك التي خاضها، وفي كل مرة يدرك أنه قد هُزم بالفعل، ولكنه يفسر الأمر على نحو أن خصومه من السحرة قد أرادوا حرمانه من نصر مؤكد فمسخوا بسحرهم العمالقة الشياطين إلى طواحين هواء، ومسخوا الفرسان المحاربين إلى أغنام. وفي النهاية، استعاد دون كيشوت عقله، وقد شاخت روح المغامر فيه، وهو على فراش الموت، وتبرأ من "أشباح الجهل الأسود" من قراءة "كتبه البغيضة عن الفروسية"، وندم على أمر واحد فقط وهو عدم امتلاكه وقتاً كافياً لقراءة كتب أخرى يمكنها أن تنير الروح. Sancho Panza سانشو بانزا: فلاح طيب واقعي، ضخم الجثة، بعكس دون كيشوت الطويل الهزيل، وتنشأ المفارقات المضحكة ابتداء بمنظر الرجلين، ولم يسلم سانشو المسكين خلال مغامرات سيده الجديد، فالبرغم من أنه يحب السلم بطبعه، ودون كيشوت فارس لا يُباح له إلا قتال الفرسان، فإن جاء العدوان من دونهم، وجب أن يتكفل بهم سانشو، والنتيجة أن سانشو قد تحمل اللكمات والضرب بالعصي والرجم بالحصى والتقاذف بالملاءات، كما حدث مع التجار الذين احتك فرس دون كيشوت بفراسهم دون قصد، وعندما رفض دون كيشوت أن يدفع أجر مبيتهما في فندق فقد توهم أنه بات ليلته في قلعة من قلاع الفرسان، وعندما أبدى سانشو رأيه في "دولوسينيا"، قهره دون كيشوت، بأنه يراها جميلة ونبيلة، كما رسمها في مخيلته، كما يريدها هو. ميجل دي سيرفانتس Miguel de Cervantes: ولد في قرية بجوار مدريد، وشارك في معركة ليبانتو 1571، التي هُزم فيها الأسطول التركي، وأظهر شجاعة فائقة، وجُرحت يده اليسرى جرحاً أصابها بالشلل، وظل هذا الجرح وساماً يفخر به طوال حياته، وعمل بالأسطول الإسباني، ووقع في الأسر مرة قضى منها خمس سنوات أسيراً ورقيقاً في الجزائر، وقضى ما بين ثلاث وخمس سنوات في السجن بتهم مختلفة. أحب القصة والرواية والشعر الغنائي والمسرح، وخلال 20 عاماً كتب 40 مسرحية لم تنجح واحدة منها في لفت الأنظار، وفي 1597 (أي بعد قرن واحد تقريباً من سقوط غرناطة) تعرض للحرمان الكنسي لإساءته للكنيسة الكاثوليكية، وبصعوبة نجا من عقوبة أكبر، وحين كبر في السن وضعفت بنيته واقتنع بفشله الذريع، جلس ليكتب (دون كيشوت) من أجل أن يكسب شيئاً من المال، وجلب له المجلد الأول الشهرة لكنه لم يجلب له المال، وحين ظهر المجلد الثاني بعد عشر سنوات، ضمن له الخلود بصفته كاتباً أعظم الروايات العالمية؛ ولكنه كان قد هرِم جسدياً وتحطم روحياً، ولم يلبث أن توفي بعد صدور المجلد الثاني بشهور. - دون كيشوت صار ملهماً، وما زال، لمئات من عروض الباليه والأوبريتات والأعمال الموسيقية والفنون التشكيلية، والأفلام الدرامية والوثائقية في السينما الصامتة والناطقة والتليفزيون، والمسرح والرسوم المتحركة والقصص المصورة، ناهيك عن الأعمال النقدية والفلسفية، والترجمات، والدراسات والأبحاث والاقتباسات في كل أنحاء العالم، وكانت سخرية سرفانتس في دون كيشوت سلاحاً مدمراً للقيم البالية وأداة للتغيير والإصلاح، لجيل يولد من جديد. * للتأمل: عز الخيول صبولها وللخرجة ما تنفع فالجلسة ما تضر. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.