الأصل في المعماري أنه يبني ما يتخيله ويصممه ولا يكتفي برسمه فقط، وتخليق الأشكال الفراغية والبصرية هو جزء من عملية واسعة تجمع بين التخيّل والرسم وتنفيذ الرسومات على أرض الواقع؛ بل وإعادة تهذيبها وربما تغييرها.. هذه العملية قد تكون مضنية، وقد يراها البعض غير عملية، لكن هذه هي طبيعة العمارة وهذا هو دور المعماري.. وصلني خبر قبل فترة قصيرة حول الجدل الدائر في الولايات المتحدة حول "العمارة" وتصنيفها كمهنة، ومكمن الجدل أن القروض الطلابية مرتبطة بتصنيف التخصص كونه مهنيا أم لا، وهذا في الأصل له ارتباطات مهمة بآليات التوظيف إذ غالبا ما تكون فرص الخريجين من التخصصات المهنية أعلى. ورغم أنه يصعب إلغاء "مهنية" خريجي العمارة حتى لو ثار جدل مؤقت حولها إلا أن هذا الجدل أثار لدي مسألتين مهمتين: الأولى: كيف يمكن أن نطوّر برنامجا للقروض الطلابية، خصوصا لأولئك الذين يلتحقون بالجامعات الخاصة، ونشجعهم على الالتحاق بتخصصات محددة يحتاجها السوق المهني؟ هذه الفكرة يمكن أن تحل محل برنامج الابتعاث الداخلي الذي يبدو أنه توقف ويصعب في المستقبل استمراره حتى لو أن بعضه مستمر. فكرة القرض تكون مبنية على السداد الميسر بعد التخرج والالتحاق بالعمل. أعتقد أن إعادة هيكلة دعم الطلاب غير الملتحقين بالجامعات الحكومية سيوفر فرصا مهمة لقطاع كبير من الطلاب وسيدعم الأسر غير القادرة على إلحاق أبنائهم بجامعات خاصة، ويمكن أن يسد النقص لكثير من الوظائف المهنية التي نحتاجها في المستقبل. في الواقع طرأت هذه الفكرة لأني كنت أفكر في كيف يمكن أن نعيد التفكير في أسلوب التعليم المعماري، فقد كنت أحلم بتأسيس مدرسة عمارة مهنية تخلق معماريين لديهم تجربة حقيقية وليست نظرية فقط، وهذا قد يتطلب أن يكون هناك حافز يشجع الطلاب على الالتحاق بمثل هذه المدرسة وعلى رأسها "القروض الطلابية". المسألة الثانية مرتبطة بالمعماري نفسه، الذي صار يعاني من تدهور تعليمي خطير، فقد تحوّلت برامج التعليم المعماري إلى برامج تقنية مهملة بذلك الجوانب الفلسفية الأساسية التي كانت مرتبطة بتعريف العمارة كونها "أسلوبا في التفكير". كما تحوّل عمل أساتذة العمارة إلى تعبئة النماذج الورقية التي تتطلبها الاعتمادات الأكاديمية بدلا من التعليم الحقيقي، وتقلّصت الساعات المطلوبة للتخرج فتم إخراج العديد من المواد الدراسية المهمة، وعلى رأسها تلك المرتبطة بآليات التفكير. إضافة إلى ذلك أصبحت البرامج متشابهة وتراجع الاختلاف، فهذا ما تريده سياسات الاعتماد الأكاديمي العالمية. لكن هل هذا يمكن أن يصنع "معماري" قادر على العمل المهني وصناعة عمارة تحمل الحد الأدنى الذي تتطلبه هذه المهنة؟ كوني أستاذا للعمارة قرابة 37 عاما، لاحظت هذا التدهور التدريجي في التعليم، فعندما كنت طالبا عام 1984م وحتى نهاية الثمانينات كان البرنامج (تم تطويره بالتعاون مع جامعة رايس في تكساس بالولايات المتحدة) أكثر من 200 ساعة دراسية وكان يوازن بين التاريخ والفلسفة والعلوم الاجتماعية وبين البرنامج التقني والمراسم التي هي العمود الفقري للتعليم المعماري. كنا نرى المجسمات في كل زاوية من مباني الكلية، وكان بعض الأساتذة يقوم بتجارب عملية تجعل الطلاب أكثر قربا من الواقع. اليوم تقوم الطابعات ثلاثية الأبعاد بعمل المجسمات والبرامج الحاسوبية ترسم عن الطلاب، وتم كذلك تقليص الساعات الدراسية وسلخ أغلب أدوات التفكير منها، فماذا عسى أن نتوقع أن تكون مواصفات المعماري الذي سيتخرج من برامج دراسية مثل هذه؟ يجب أن أقول إنه رغم إطرائي لبرنامج العمارة الذي تعلمت من خلاله قبل 40 عاما، إلا أن كثيرا من الأساتذة كان يوجّه له نقدا حادا، بل كان نقدهم لفلسفة التعليم المعماري التي طورها المعماري الألماني مؤسس مدرسة "الباوهاوس" "ولتر قروبيوص" في مطلع القرن العشرين، وهي تلك الفلسفة التي تخلت عن أسلوب "الأتيليه" الفرنسي الذي كانت تتبناه "البوزار" في القرن التاسع عشر وهو أن يلتحق من يريد أن يصبح معماريا بمعلم ممارس ويعمل لديه لسنوات وهو من يجيزه ليصبح معماريا بعد ذلك، وكثير من أباطرة العمارة تعلموا بهذا الأسلوب، فما الذي جعل "قروبيوص" يُفكّر في منهج التعليم المعماري بهذا الأسلوب الذي بدا مناسبا في وقته وصار يتدهور مع مرور الوقت؟ الجدل كان قائما حول ماهية "المعماري" فهل هو "بنّاء" أو "رسّام"؟ والتصميم يقع بين الفضاءين. أحد أهم مُنظّري العمارة في النصف الثاني من القرن العشرين "كريستوفر ألكسندر" توقف عن التصميم والرسم وقال إنه لم يبنِ مبنى واحدا في حياته، ومن هذا الموقف طوّر نظرياته المهمة وحاول أن يطبقها على أرض الواقع. الأصل في المعماري أنه يبني ما يتخيله ويصممه ولا يكتفي برسمه فقط، وتخليق الأشكال الفراغية والبصرية هو جزء من عملية واسعة تجمع بين التخيّل والرسم وتنفيذ الرسومات على أرض الواقع بل وإعادة تهذيبها وربما تغييرها. هذه العملية قد تكون مضنية وقد يراها البعض غير عملية، لكن هذه هي طبيعة العمارة وهذا هو دور المعماري. أمر حاليا بتجربة بناء مسكني الخاص، وبالطبع مررت بكثير من التجارب قبل ذلك، لكن هذه التجربة مختلفة جدا، فقد قررت أن أقوم بتخليق الشكل المعماري على مستوى التفاصيل من خلال قراراتي المباشرة والآنية في الموقع واتفقت مع المقاول على هذا الأسلوب. يجب أن أُذكّر القارئ الكريم أنني معماري ولم أكن أواجه إشكالية في الشرح وعمل الرسومات الميدانية على جدران المبنى من أجل تنفيذها. صرت أصوّر يوميا كثيرا من التفاصيل وفي المساء أبدأ بدراسة الصور والتأكد من توازن العلاقات بين الداخل والخارج، ونتيجة لذلك تم تغيير كثير من تفاصيل المبنى، بل وحتى فراغاته، فقد كنت أعمل اختبارا للحركة وللإحساس بالفراغ ومراجعة الإطلالات والتأكد من توافق مواد التشطيب. ربما سيقول البعض إن هذا هو دور الإشراف الهندسي والمعماري على المبنى، وسأرد عليهم أن الإشراف يتأكد من تنفيذ الرسومات بدقة ويحاول أن يبحث عن حلول للمشاكل التي تطرأ أثناء التنفيذ؛ أما ما ذكرته فهو إعادة تخليق الشكل بالكامل من خلال التصميم في الموقع ومراجعة التكوين العام بشكل شبه يومي. هذه التجربة على وجه الخصوص جعلتني أتفق مع "الكسندر"، فالمعماري يجب أن يتعلم كيف يبني، ويجب أن يملك مهارة الجمع بين الرسم والتصميم والتنفيذ، وقبل ذلك يجب أن يكون ذا خيال خصب وثقافة واسعة.