×
محافظة الرياض

الإقلاع والهبوط

صورة الخبر

الذكريات التي لها قيمة لا تكون منفردة بل تجمعنا بالآخر، مهما كان هذا الآخر، والفضاء الذي نصنعه بيننا وبين من حولنا يشكل مفاهيمنا المستقبلية ويحدد محتواها.. فالعلاقة الخاصة التي تجمع بين الأستاذ وتلاميذه هي جزء من المخطط الاستراتيجي الذي نحتاجه كأفراد، فلا نتوقع الحياة دون حد أدنى من التخطيط، ولا نتصورها دون أن تعتريها حالات من الإقلاع والهبوط.. سنحت الفرصة خلال أيام العيد الالتقاء بزملاء لم ألتقِ بهم منذ فترة طويلة، في أحد اللقاءات دار الحديث حول سنوات الدراسة الجامعية المبكرة، ورغم أن الزميلين الآخرين اللذين كانا في اللقاء من جامعة أخرى غير الجامعة التي درست فيها مرحلة البكالوريوس إلا انه جمعنا أولا التخصص وهو العمارة وثانيا أنني أتممت جزءا من مرحلة الماجستير في تخصص تخطيط المدن في نفس الكلية، وكان ذلك عام 1994، التي تخرج منها الزميلان، ومع أنني لم أكمل الدراسة والتحقت ببعثة خارج المملكة لإكمال الدكتوراه إلا أننا تقاطعنا مع بعض الأساتذة المشتركين، أحدهما كان أستاذا سعوديا يدرس مادة التخطيط، وكان متميزا بعفويته وبساطته ودعمه للطلاب. كل ما أذكره عن هذا الأستاذ هو قوله "أن الحاجة للتخطيط الاستراتيجي مهم في حالة الاقلاع Takeoff وأكثر أهمية في حالة الهبوط Descending". وكان يربط فكرة التخطيط بالآليات والكيفيات التي تمكن أي دولة من الناحية الاقتصادية على وجه الخصوص من الإقلاع بعيدا عن الوضع الراهن الذي تعيش فيه لكنه كان يقول إن الحاجة للتخطيط تكون أكبر عندما تبدأ حالة من الركود والهبوط الاقتصادي لأي دولة. تحدث الزميلان عن مواقف وذكريات خاصة مع بعض الأساتذة، واكتشفت من هذا الحديث أن الطلاب غالبا ما يتذكرون أساتذتهم من خلال موقف أو موقفين وغالبا ما تكون تلك المواقف قد رسمت خطوطا عميقة في شخصية تلك الطلاب وساهمت في تغيير نظرتهم للحياة أو ساعدتهم على التفكير بطريقة مختلفة. من خلال الحديث وجدت أن كثيرا من الصداقات التي تنشأ بين بعض زملاء الدراسة يكون سببها أسلوب أحد الاساتذة الذي علمهم في المرحلة الجامعية، كلماته ومواقفه وقدرته على بناء فرق العمل. وبما أنني أستاذ في الجامعة كنت أصغي لحديث الزميلين بتمعن، فما الذي سيتذكرك طلابك به؟ فتح هذا السؤال حديثا طويلا عن كثير من الأساتذة الذين قفزوا من الذاكرة قفزا دون أن يكون لهم أثر. شخصيا حاولت أن أتذكر بعض الكلمات التي كان يقولها بعض الأساتذة وعجزت أن أذكر جملة واحدة أو موقفا مؤثرا للعديد منهم. وسألت نفسي ما الذي سيتذكره طلابي عني بعد مرور عقدين أو ثلاثة؟ هل سيذكرون مواقفي المتشددة معهم أم المواقف التي حاولت أن أقف معهم وأقوّم مسارهم في الحياة؟ في المسلسل الرمضاني "ليالي الشميسي" الذي يتناول الحياة في الرياض في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، وهي الفترة التي تنتمي لها ذاكرتي، لفت انتباهي الدكتور العراقي أحمد الذي كان يبحث عن الشاب فهد محمد الذي تغيب عن الجامعة فجأة، حتى أنه بحث عنه في حارته حتى وجده وأقنعه بالعودة إلى الجامعة وتوسط له بعد ذلك حتى يقبل العميد عذر تغيّبه. ذكرني هذا الموقف بحادثة حدثت لوالدي -رحمه الله-، وكان يذكرها في كثير من المناسبات، فقد كان الوالد من أوائل الملتحقين بالتعليم النظامي وكان معلمهم الأستاذ المصري محمد النحاس، أول أستاذ في التعليم النظامي في الأحساء، لكن جدي أراد من والدي العمل بعد أن أتم الصف الخامس الابتدائي وترك المدرسة، فما كان من الأستاذ النحاس إلا أن زار جدي وطلب منه أن يكمل الوالد الابتدائية. أين هؤلاء الأساتذة، لقد انقرضوا، فهذا الشعور النادر بالمسؤولية لم يعد موجودا بين الأساتذة هذه الأيام. عندما تذكرت حالات الاقلاع والهبوط التي يكون فيها التخطيط ضروريا، وجدت كذلك أن هناك بعض الأفكار تلقى هوى لدى الطلاب أكثر من غيرها حسب تكوينهم الثقافي والمعرفي لكن الذي يؤثر بشكل عميق هو الشعور بالصدق والإحساس بالمسؤولية من قبل الأستاذ. اتصلت لأهنئ زميلا متقاعدا غبت عنه لفترة فحدثني مبتهجا عن مكالمة أحد طلابه له تخرج منذ أكثر من عشرة أعوام، لقد أصبح ناجحا في حياته المهنية رغم الصعوبات الدراسية التي واجهته، وذكر أن ما تعلمه من الزميل كان سببا في تميزه. هذا الشعور بالامتنان لدى البعض يولد من مواقف صعبة تحدث بين الأستاذ وبعض تلاميذه، فعندما يكون الطالب في حالة هبوط ويجد من يأخذ بيده فإنه لا ينسى أبدا هذا الموقف، ربما كثير من الطلاب الذين يكونون في حالة إقلاع لا يحتاجون لمن يقف بجانبهم لذلك فهم لا يملكون كثيرا من الذكريات والمواقف التي تربطهم بالآخرين. لا يعني ذلك أنه يجب أن يكون الطالب في حالة هبوط حتى تتكون لديه الذاكرة المدرسية، فالأمر يظل مناطا بالأستاذ وقدرته على إعادة تشكيل التفكير لدى تلاميذه. لم يكن القصد من الحوار مع الزملاء أن تتحول الجلسة إلى دروس وعبر، لكن الذكريات عادة ما تقودنا طوعا إلى البحث في دروس الماضي لإعادة تقييم أنفسنا. الذكريات التي لها قيمة لا تكون منفردة بل تجمعنا بالآخر، مهما كان هذا الآخر، والفضاء الذي نصنعه بيننا وبين من حولنا يشكل مفاهيمنا المستقبلية ويحدد محتواها. ربما كان يفترض أن يكون هذا المقال حول التخطيط الاستراتيجي كوننا ابتدأنا بالإقلاع والهبوط الاقتصادي، وتحول الحديث إلى العلاقة الخاصة التي تجمع بين الأستاذ وتلاميذه، لكن هذه العلاقة هي جزء من المخطط الاستراتيجي الذي نحتاجه كأفراد، فلا نتوقع الحياة دون حد أدنى من التخطيط، ولا نتصورها دون أن تعتريها حالات من الإقلاع والهبوط.