×
محافظة الطوال

حكام دمشق وأقليات باحثة عن حماية

صورة الخبر

قبل أن يبلغ مئة يوم في السلطة، سقط الحكم السوري الجديد في اختبار الدم، كما سقط النظام السابق منذ اللحظة الأولى لاندلاع الانتفاضة عليه. لكن هذا النظام استطاع البقاء أربعة عشر عامًا إضافية، أو زائدة، لأنه تجذّر عميقًا خلال أربعة عقود سابقة وربّى أجيالًا عدة من الأجهزة المدافعة عنه وشبكات المستفيدين منه، كما نسج علاقات مصالح وتعاون استخباري مع العديد من الدول فتولّت روسيا وإيران حمايته وتأجيل نهايته. أما الحكم الجديد فبدت خطواته الأولى قفزات في المجهول، أو في الظلام، إذ وجد نفسه أولًا يتسلّم دولة مفلسة تضافر النظام السابق والروس والإيرانيون على نهبها، وثانيًا يتبادل انعدام الثقة مع قوى عسكرية وبنى أمنية وإدارية مفككة ومتهالكة، وبالطبع لم تكن حلولٌ جاهزة ولا سحرية. الأحداث الدامية في منطقة الساحل غربي سوريا كانت متوقّعة، ويُخشى ألّا تكون الأخيرة، فقد تتجدّد بأساليب مختلفة وتنتقل إلى مناطق أخرى، فهكذا تشتعل الفتن الأهلية، خصوصًا الطائفية، طالما أن هناك قوى خارجية مهتمّة بتأجيجها وبإفشال الحكم الجديد، لأنه ببساطة استُخدم في إطاحة النظام الأسدي، وقُدّمت له تسهيلات مذهلة (هروب كبير للجيش أمام قوات «هيئة تحرير الشام») مكّنته من النجاح في مهمّته. أما أن يحكم ويقرّر مستقبل سوريا فيبدو أن هذه مسألة تتجاوزه. بقي ذلك «الهروب» شبه المبرمج لغزًا، لكن مواكبته بالانكفاء الروسي، كذلك الإيراني إلى العراق (مع مئات المليارات من الليرات السورية)، ربما يفسّر ما يحصل الآن. كانت معالم الخريطة موجودة، وأعيد رسمها سريعًا أمام الحكام الجدد: فبعد ساعات من «انتصارهم» على النظام راحت مقاتلات إسرائيل تغير على القدرات العسكرية السورية وتدمّرها، وشرعت قواتها البرّية تتوغل وتواصل التوغّل في الجنوب السوري، حتى أنها أعلنته منطقة ممنوعة على جيش السلطة. ثم أعلن بنيامين نتنياهو أن إسرائيل معنية بحماية الدروز الذين لم يطلبوا ذلك/ أو طلبته «فئة» قليلة منهم، وقبل ذلك أدلى نتنياهو بكلام مماثل في شأن الكرد السوريين، ملوحًا ببديل إسرائيلي من الحماية الأمريكية إذا قررت واشنطن سحب قواتها... لم يستجب الكرد والدروز طلب دمشق مدّ سلطتها إلى مناطقهم وأرجأوا تسليم سلاح مقاتليهم أو انضوائهم في جيش سوري جديد إلى أن تصبح هناك دولة يمكن التعامل معها، ودستور يضمن حقوقهم، باعتبارهم من الأقليات التي طلبت القوى الدولية مشاركتها في أي حكم مقبل... بقيت الأقلية العلوية، المتركّزة خصوصًا في الساحل وأريافه، ولم تأتِها عروضٌ علنية لحمايتها، لكن عروضًا سرّية أسهمت في نصب كمائن جبلة وطرطوس واشتباكات اللاذقية وبانياس وغيرها، مرفقة بإعلان بضع ميليشيات عن وجودها وتحركها لقتل عشرات من عناصر الأمن، وجاء ردّ دمشق بجلب تعزيزات من مختلف المناطق ما لبثت أن انتقمت بمجازر ضد المدنيين تحديدًا. في نهاية المطاف حققت ميليشيات فلول النظام الأسدي ما أرادت، إذ أشعلت الساحل وأوقعت «النظام الجديد» في الفخّ، وأثبتت لإيران أنها تستطيع الاعتماد عليهم لاستئناف تدخّلها في سوريا. وكان هتاف متظاهرين بطلب «حماية روسيا» ذا دلالة، كذلك لجوء عائلات علوية إلى قاعدة حميميم، فثمة مصلحة لروسيا فيما يحصل، مع افتراض أنها لم تشارك مسبقًا في تشجيعه، ما دامت تحاول انتزاع قرار من دمشق للبقاء في قاعدتيها. لم يخطئ الحكام الجدد في إعلان «وحدة سوريا والسوريين» أولى أولوياتهم، لكنهم أخطأوا في اعتبار أن مجرّد إسقاط النظام الأسدي كافٍ وحده لتحقيق تلك «الوحدة». ففي اليوم التالي لهروب بشار الأسد تغيرت الأولويات وصار عليهم أن يواجهوا الهمّ الاقتصادي الذي سبقهم في دفع النظام إلى نهايته، لكنهم حتى الآن لم يتوصّلوا إلى حلول. ثم إن قراراتهم بتسريح الآلاف من وظائفهم أسهم في «البطالة المسلحة» التي تحوّلت بدورها إلى أخطر تهديد للحكم. وبموازاة ذلك لم تُظهر خطواتهم (الحوار الوطني، لجنة الإعلان الدستوري، بعض التعيينات...) استعدادًا لتخطّي جمودهم الأيديولوجي والانفتاح على ذوي الخبرة والتجربة في إدارة الدولة، كما أن التواصل مع الكرد والدروز والعلويين وغيرهم لم يبنِ ثقة ولم يُحدث اختراقًا في نظرة الآخرين إليهم. مع بداية الحكم الجديد بدأت المطالبة المحقّة برفع العقوبات الغربية، كونها فُرضت على النظام السابق لإضعافه، لكن الشعب حصد أضرارها ولا يزال. الدول الأوروبية خفّفت العقوبات، ودول عربية عدة ترغب في الدعم، إلا أن غموض الموقف الأمريكي يقيّدها جميعًا. بقيت المساعدات في الإطار الإنساني فلا تسهم في تنشيط الاقتصاد أو في تفعيل الدولة. الجميع يراقب أداء حكام دمشق ويسجّل نقاطًا لهم أو عليهم لقياس مدى تقدمهم نحو الاستقرار، ولا شك أن أحداث الساحل لم تعزز شرعيتهم في الداخل ولا الاعتراف بهم في الخارج. * ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»