يتميز قادة وشعب دولة الإمارات العربية المتحدة بالوفاء المتوارث بين الأجيال، حيث تظل الإنجازات العظيمة التي حققها الآباء المؤسسون حاضرة في الذاكرة الوطنية، ما يجعل هناك اتصالا عميقا بروح من الوفاء مع الماضي. حيث لم تنسَ الأجيال الحديثة فضائل من سبقوها، بل سعت إلى تجديد العهد معهم من خلال استحضار مواقفهم وإرثهم العظيم. أحد أبرز الأمثلة على تلك الحقيقة، اختيار وسم #زايد و #راشد” على هامش احتفالات الدولة باليوم الوطني الـ53، في إشارة إلى قوة العلاقة التي بنيت بين القادة الأوائل على أسس من الوفاء والتعاون. بدأت القصة الحديثة لهذه البلاد عام 1968، عندما قررت الحكومة البريطانية الانسحاب من منطقة الخليج، مما جعل حكام الإمارات في مواجهة مستقبل غامض دون خارطة عبور لليوم التالي. فلم يكن لدى البريطانيين في تلك الفترة أي تصور حول المرحلة الانتقالية، وكيفية ملء الفراغ السياسي والأمني الذي سيخلفونه بعد انسحابهم، كما أن الوضع كان مرشحا كنتيجة إلى بروز أطماع إقليمية متربصة تهدد استقرار المنطقة. بالرغم من أن العديد من المراقبين كانوا يشككون في إمكانية إقامة اتحاد بين الإمارات، بسبب غياب البنية السياسية والاقتصادية الموحدة. إلا أن الشيخ زايد قلب المعادلة، بإيمانه العميق بالوحدة، وما يملك من رؤية بعيدة المدى لتحقيق المصلحة الجامعة للمنطقة. كان البريطانيون يتوقعون أن يستغل الشيخ زايد القوة الاقتصادية والسياسية التي تتمتع بها إمارة أبوظبي لفرض هيمنته وتحقيق مكاسب شخصية. إلا أن حقيقة فلسفة ومفهوم الوحدة التي يؤمن بها زايد، كانت تحمل بعدا أخلاقيا عميقا، ولم يكن ينظر للوحدة كوسيلة لتحقيق مصلحة سياسية ضيقة. اعتمد الشيخ زايد في مقارباته السياسية في هذه المرحلة على تجاوز القنوات الدبلوماسية الرسمية في حل المشكلات العالقة بين أشقائه حكام المنطقة، واعتمد على فلسفة “الدبلوماسية الشخصية” كما وصفها الشيخ الدكتور سلطان القاسمي في كتابه ”بقوة الاتحاد”، والتي وظفها للتفاعل مع كافة الأطراف خلال مسيرة الاتحاد. لا يمكن أن نغفل أن الوفاء الذي يتسم به قادة الإمارات ليس مجرد كلمات بل هو نهج يتجسد في كل خطوة نحو بناء دولة الاتحاد كانت دبي بالنسبة إلى الشيخ زايد بما تمتلكه من قوة اقتصادية وجغرافية تتوسط الطريق، تمثل بوابة العبور نحو مشروع دولة الاتحاد. كانت العلاقة بين أبوظبي ودبي محورية في تلك المرحلة، وكانت هناك بعض القضايا الحساسة، مثل الحدود والمصالح النفطية، التي إن لم يتم حلها قد تؤدي إلى توتر العلاقات وتعطيل الحلم الذي يسكن عقل وقلب الشيخ زايد. ورغم تلك التحديات، تم النجاح وتجاوز تلك العقبات بفضل العلاقة الشخصية التي وطدها الشيخ زايد مع الشيخ راشد، والحكمة لدى الرجلين في إدارة الملفات الشائكة. لعل المقاربة في حل الإشكال القائم حول الاستكشافات النفطية البرية والبحرية بين أبوظبي ودبي، وطريقة حلها بروح الأخوة وحسن الجوار، وقبول حاكم أبوظبي بتقديم تنازلات من أجل تسوية الخلافات بما يخدم المصلحة العامة، أسست لواقع جديد في حل الخلافات في المنطقة. نتج عن تلك المقاربة في 18 فبراير 1968، تأسيس “اتحاد مصغر” بين أبوظبي ودبي، وكان خطوة مهمة نحو بناء اتحاد شامل يضم الجميع. كانت منهجية الشيخ زايد في إبرام اتفاقية الوحدة بين أبوظبي ودبي مؤشرا على الطريقة التي سيتبعها في المفاوضات المؤدية إلى طريق الوحدة السياسية الشاملة مع الإمارات الأخرى. لقد أعطى الاتفاق أول مثال عملي في المنطقة في حل المشكلات الحدودية. كما شكل الاتفاق صورة عن حسن نوايا الشيخ زايد تجاه الوحدة التي يسعى لتحقيقها. من زاوية أخرى، شكل وجود دبي وشخصية الشيخ راشد في هذا الاتحاد، حالة اطمئنان في نفوس حكام الإمارات الأخرى، وضمن لهم وجود عامل توازن القوى في الكيان الاتحادي المنشود. تلك البداية كانت تحمل في طياتها تطلعات كبيرة، رغم أن كلا من الشيخ زايد والشيخ راشد، كانت لديهما رؤى مختلفة في بعض التفاصيل. من جانب، كان الشيخ راشد يركز على تعزيز اقتصاد إمارة دبي، لجعلها مركزا تجاريا جاذبا، بينما كان الشيخ زايد يرى الاتحاد خطوة نحو تعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي في المنطقة. كما أظهر مرونة سياسية وحكمة دبلوماسية في التعامل مع القضايا العالقة، وكان له دور بارز في حل العديد من المشاكل من خلال الحوار المباشر مع القادة. اتفاق الوحدة بين أبوظبي ودبي أعطى أول مثال عملي في المنطقة في حل المشكلات الحدودية في 13 مايو 1974، زار رئيس الدولة إمارة الشارقة ليلتقي أخاه الشيخ سلطان القاسمي، من أجل التوصل إلى اتفاق بشأن توزيع عائدات النفط المكتشف حول جزيرة أبوموسى التابعة لإمارة الشارقة. كانت لتلك الدبلوماسية الشخصية، ومرونة الشيخ سلطان القاسمي دور في نجاح المهمة، والموافقة على تخصيص 30 في المئة من عائدات النفط المكتشف لإمارة أم القيوين، بالإضافة إلى منح 6 في المئة من حصة الشارقة لإمارة عجمان. تلك المقاربة العملية لنموذج الدبلوماسية الشخصية رسخت النهج التوافقي الذي اتبعه الشيخ زايد في حل القضايا الشائكة. لقد كانت قيادته تتميز بالصراحة والشفافية، مع القدرة الفائقة على التفاوض وحل الأزمات بعقلية دبلوماسية، ما جعل اتحاد الإمارات حقيقة واقعة. كانت المرحلة التي مرت بها الإمارات تتطلب شخصيات قوية تمتلك القدرة والمرونة في التعامل مع الظروف السياسية الصعبة بحنكة وحكمة، الأمر الذي جعل من الشيخ زايد القوة المحركة لمشروع الاتحاد. ختاما، لا يمكن أن نغفل أن الوفاء الذي يتسم به قادة الإمارات ليس مجرد كلمات بل هو نهج يتجسد في كل خطوة نحو بناء دولة الاتحاد. واليوم، ونحن نحتفل بالذكرى الـ53 لليوم الوطني، نجد أن الوفاء للآباء المؤسسين هو جزء من الهوية الإماراتية التي تواصل إلهام الأجيال الجديدة لمواصلة المسيرة نحو المستقبل.