في عصرٍ تُزيل فيه التكنولوجيا حدود المستحيل، وتُعيد تشكيل ما ألفناه، يبرز سؤالٌ لا يمكن تجاهله: لماذا ما زلنا نتمسك بنظام عمل تقليدي يُكبّلنا بثماني ساعات طويلة تُهدر الطاقات، بينما تُنجز الآلات الذكية والخدمات الرقمية في لحظات ما يستغرق منا أيامًا؟ ففي عالمٍ يتقدم بسرعة البرق، حيث صارت الإنتاجية مرهونة بالكفاءة والجودة لا بالوقت المهدور. أليس من الضروري إعادة التفكير في نظام العمل التقليدي؟ تقليص ساعات العمل اليومية إلى ست ساعات أصبح ضرورة اقتصادية واجتماعية، وليس مجرد فكرة جريئة، فقد أثبتت تجارب عالمية جدوى هذا التوجه. ففي السويد، أظهرت تجربة مستشفى «Svartedalen» أن تقليل ساعات العمل حسّن الصحة النفسية للموظفين وزاد إنتاجيتهم. أما تجربة «مايكروسوفت اليابان» عام 2019، فقد حققت زيادة بنسبة 40% في الإنتاجية مع تخفيض استهلاك الكهرباء بنسبة 23% والطباعة الورقية بنسبة 59%، مما أثبت أن ساعات العمل الأقل يمكن أن تُحدث فرقًا هائلًا وجوهرياً. في مدينة مثل الرياض، التي تُعد الأكثر ازدحامًا واختناقًا مروريًا في المملكة، يمكن أن يُحدث تقليص ساعات العمل تحولًا جذريًا، هذا التوجه لا يخفف الزحام المروري ويقلل الهدر الزمني والاقتصادي فقط، بل يسهم في تحسين جودة الحياة للموظفين، مما يحقق مكاسب مزدوجة للشركات عبر تعزيز الصحة النفسية والاجتماعية وخفض استهلاك الطاقة، وهو ما يرسخ دورها في حماية البيئة وتقليل البصمة الكربونية. وعلى صعيد آخر، كشفت دراسة حديثة عام 2023 أن 84 % من حالات الطلاق في المملكة تخص الموظفات، مما يشير إلى ضغوط اجتماعية ونفسية تتطلب إعادة النظر في أنظمة العمل التقليدية التي تستنزف ثماني ساعات طويلة من حياة الموظفين، مؤثرةً سلبًا على صحتهم، إنتاجيتهم، واستقرار أسرهم. وكما أن الصعوبات من صنعنا، فإن إيجاد الحلول يقع على عاتقنا أيضًا، حيث يمكننا التغلب على هذه العقبات وتحقيق التوازن بين الطموحات والتحديات من خلال تبني بعض الحلول والاقتراحات الفعالة: 1. العمل الموسمي العكسي، الذي يقوم على إعادة توزيع ساعات العمل خلال السنة بحيث يتم تخصيص المزيد من الجهد والوقت في الفترات الاقتصادية النشطة (مواسم الذروة)، بينما تُقلص ساعات العمل أو تُمنح إجازات أطول خلال الفترات الهادئة اقتصاديًا. يهدف هذا النظام إلى تحقيق توازن فعال بين متطلبات السوق والطاقة الإنتاجية للموظفين، مع تقليل الإجهاد خلال الفترات الهادئة وزيادة الكفاءة والإنتاجية خلال مواسم النشاط. يُعد هذا النموذج مثاليًا للقطاعات التي تعتمد على طبيعة موسمية مثل السياحة، والبيع بالتجزئة، والزراعة، وبعض القطاعات الخدمية. 2. الاقتصاد الوظيفي العكسي، الذي يركز على تحديد أجور الموظفين بناءً على القيمة طويلة الأمد لأعمالهم بدلاً من قياسها على أساس ساعات العمل الفورية أو الإنتاج اليومي. يهدف هذا النظام إلى مكافأة الوظائف التي تحقق تأثيرًا مستدامًا أو نتائج استراتيجية مستقبلية (مثل البحث والتطوير) بشكل عادل. ويُمكن تطبيقه باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتقييم التأثير المستقبلي للمهام وربط الأجور بالقيمة الاستراتيجية التي تضيفها هذه المهام إلى الشركة، بدلاً من الاعتماد على الإنتاجية قصيرة الأجل. 3. تقديم حوافز للشركات التي تتبنى العمل المرن والمستدام، مثل الدعم المالي، التخفيضات الضريبية، والمساعدات الحكومية. بالإضافة إلى ذلك، إنشاء وحدات متخصصة للاستدامة لمراقبة تأثير السياسات وتقديم تقارير دورية تضمن تحقيق الأهداف الاقتصادية والبيئية والاجتماعية بكفاءة وشفافية. 4. دمج مفاهيم العمل المرن والاستدامة في التعليم المدرسي لتنشئة أجيال واعية ومنتجة وقادرة على دعم مستقبل مستدام ومبتكر. ختاماً، إن تقليص ساعات العمل إلى ست ساعات يوميًا ليس مجرد خيار مستقبلي، بل ضرورة حتمية في عالم يتغير بوتيرة متسارعة، فالمملكة اليوم تقود تحولًا شاملًا في جميع جوانب الحياة، ولن تكتمل هذه الرحلة إلا بتبني نماذج عمل ذكية تضع الإنسان في قلب التنمية، فالقرار بأيدينا الآن: هل نتقدم بخطى واثقة نحو المستقبل، أم نبقى أسرى نظام تقليدي يُهدر إمكاناتنا؟ ** ** - مستشار التنمية المستدامة