"الحب" و"العشق" يغلبان الرغبة، وهناك فرق كبير بين أن نرغب في الشيء ونريد أن نتملكه، وبين أن نحبه ونريد أن يشاركنا الناس في حبه.. يبين المهتمون بالرابطة المكانية أن تطور العلاقة مع المكان تولّد الدافع لدى الذين أحبوا ذلك المكان بأن يجعلوا بقية الناس يرون ما يرونه.. من يتحدث عن الحب يحاول أن يصف رابطة وعلاقة يصعب قياسها ويستحيل وصفها وتحديد أسبابها، وعندما يكون الحديث عن وقوع الإنسان، أي إنسان، في حب المكان تصبح هذه العلاقة معقدة ومركبة، فلماذا تأسرنا بعض الأمكنة عندما نراها لأول مرة، هل لتجربتنا السابقة في الحياة علاقة بمكامن هذا الحب؟ وهل للمكان نفسه دور في ذلك؟ هذه الأسئلة تصنع الجدل الفلسفي حول مفهوم "عشق المكان" أو ما يطلق عليه في العالم الأكاديمي "الرابطة المكانية" Place Attachment فهذه الرابطة الجدلية تتنازعها، غالبا، كفتا ميزان أحدثها الاستعداد الذاتي لبعض البشر أن يروا في المكان ما لا يراه الآخرون، والأخرى الخصائص الكامنة في المكان التي تحرك في البعض ما هو أكثر من "التذوق المكاني". بواعث تدفع إلى عشق المكان نابعة من المشاعر العميقة، التي يصعب تفسيرها، قد يكون للذاكرة البعيدة دور فيها لكن يصعب الجزم بذلك. الذي يبعث على الغرابة أحيانًا أن الكفة الثانية تكون غير واضحة، فما هو كامن في المكان غير ظاهر، لكن الكفة الأولى تجعل البعض يكتشفها ويراها بوضوح حتى أن من يحيط بهم يشعرون بغرابة "عشق المكان من أول نظرة"، لأنهم لا يستطيعون رؤية المكان كما يراه من أحبّه. يكرر الأمير سلطان بن سلمان حكايته مع نخيل العذيبات في الدرعية، وهي حكاية تولّد كثيرًا من الأسئلة حول الأسباب التي تربط الإنسان بالمكان من أول نظرة، ففي نهاية الثمانينات من القرن الميلادي المنصرم كان الأمير يتجول في الدرعية، وكانت في تلك الفترة مهددة بالخراب، خصوصا وادي حنيفة الذي غلبت عليه التعديات، قبل المشروع الذي تبنته الدولة بقيادة أمير الرياض آنذاك، خادم الحرمين الملك سلمان -أيده الله-. يقول الأمير إنه كان مع صديق له في تلك الجولة فوجد مزرعة خربة وفيها بيت من الطين، اكتشف بعد ذلك أنها مزرعة للملك فيصل -رحمه الله-، وكانت قيمة الأراضي والمزارع في الدرعية، في تلك الفترة منخفضة، ولم تكن جذّابة، لكنه قرر أن يشتري العذيبات، إلا أن من كان يرافقه قال له "المكان غير مناسب ونصحه بأن يشتري في مكان آخر"، فكان رده عليه "لا سأشتري المزرعة أنا وقعت في حب المكان". هذه الحكاية تفسّر بعضًا من العلاقة الغامضة بين الإنسان والأمكنة، قد يكون للذاكرة الممتدة والبعيدة دور في قرار الأمير، لكن الأكيد أن هناك درجة من الشفافية في المشاعر التي تجعل أحدًا ما يتعلق بمكان ما رغم أن كل الظروف المحيطة تقول له "ابتعد". حكاية العذيبات ملهمة إلى درجة أنها تفسّر جانبًا من فلسفة "الرابطة المكانية" لم يتطرق لها المهتمون في دراساتهم، وهذا الجانب هو: كيف يدفع حب المكان على العمل بصبر ومثابرة على تطويره، بل وتطوير الواقع المحيط به؟ دعوني أقول إن الأمير سلطان، منذ أن صرّح بحبه للعذيبات كمكان، لم يتوقف في يوم عن العمل على تطوير الدرعية برمتها ففي التسعينات أعدّ مقترحًا للتطوير وافق عليه أمير الرياض ورأس اللجنة المسؤولة عن تطوير الدرعية، وفي تلك الأثناء كان هناك مقترح لبناء مسجد الإمام محمد بن سعود في الدرعية ضمن ثلاثة مساجد تحمل نفس المسمى في مدن مختلفة (منها الخرج) تبرع بها الملك فهد، رحمه الله، وكان الموقع الذي تم اختياره في الدرعية من قبل إمام المسجد هو حي البجيري. يقول الأمير: تخيلوا لو أن المسجد أقيم في المكان الذي تم تحديده في البداية لكان خسرنا البجيري للأبد.. هذا لا يعني أن جامعًا بهذا الحجم والتأثير لا يستحق المكان الأفضل، بل لأن المكان نفسه يحدد ما هو أفضل من خلال الكفاءة وتعزيز الذاكرة، وهذا ما حدث بعد ذلك، فقد كان للأمير علاقة مباشرة بالمشروع وحاول إقناع الإمام بأن الموقع لا يتسع لجامع بهذا الحجم فبني في مكانه الحالي وبقي البجيري يشكل مفصلًا حيويًا في تطور الدرعية. يتخلل هذه الحكايات التي تتقاطع فيها أمكنة وشخصيات كثيرة خاض معها وخلالها الأمير مفهوم "عشق المكان"، العديد من التحديات التي حوّلت مفهوم "الرابطة المكانية" من مجرد "تعلّق" بالمكان إلى العمل دون هوادة على حمايته وتطويره. يمكن أن نعتبر الأمير أحد قادة "شبكة الحماية" Safety Net التي ساهمت بشكل مباشر في حماية الدرعية وبقائها حتى اليوم، لأنه، عندما واتته الفرصة، لم يكتفِ بتصدره للعمل في هذه المنطقة الفريدة بل عمل على تسجيلها على لائحة التراث العالمي. ومع ذلك يجب أن أذكر هنا أن علاقة "سلطان" بالأمكنة لا تكتفي بالدرعية فقط، فالعلاقة مع المكان هي بذور مزروعة داخله تجعله يرى كل مكان يشكل ذاكرة الناس ويختزن جغرافية المملكة ومناطقها مكمنا للعشق، هذه الأمكنة، تمثل مصيدة الحب من أول نظرة التي لا يقع في شباكها إلا من يحمل المشاعر المرهفة التي تمكنه أن يرى ما بداخلها. لابد أن أشير أن "الحب" و"العشق" يغلبان الرغبة، وهناك فرق كبير بين أن نرغب في الشيء ونريد أن نتملكه وبين أن نحبه ونريد أن يشاركنا الناس في حبه.. يبين المهتمون بالرابطة المكانية أن تطور العلاقة مع المكان تولّد الدافع لدى الذين أحبوا ذلك المكان بأن يجعلوا بقية الناس يرون ما يرونه، هذا ما يفعله الأمير سلطان مع نخيل العذيبات، فهو لم يكتفِ أن يمتلك المكان بل جعل منه مكانا يمثل "تجربة معاشة" ومركزا ثقافيا يحمل ذاكرة الثقافة السعودية خلال الثلاثة العقود الأخيرة.