بادئ ذي بدء، لا بدّ من الإشارة إلى موقف المملكة العربية السعودية الثابت من إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران. فالموقف السعودي واضح وجليّ على كافة المستويات السياسية والمحافل الدبلوماسية، ألا وهو أنه لا سلام ولا تطبيع مع إسرائيل إلا بعد قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية. عملت المملكة العربية السعودية على مدى عام كامل على حشد الدعم الدولي للحصول على المزيد من الاعترافات الدولية بدولة فلسطين، والمطالبة بالعضوية الكاملة لها في الأمم المتحدة، والمطالبة الحثيثة من أجل وقف إطلاق النار، وتقديم المساعدات الإنسانية بشتّى السبل، وانسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزة، وتولّي دولة فلسطين المسؤولية فيه وربطه مع الضفة الغربية. وسعياً منها لترجمة الأقوال إلى أفعال، بدأت في الحاضرة السعودية الرياض، أولى جلسات التحالف العالمي لتنفيذ حل الدولتين، وهو التحالف المعنيّ بترجمة هدف إنشاء دولة فلسطينية تعيش بسلام إلى جانب إسرائيل، وفق ما أعلنه وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، في نهاية سبتمبر 2024. ◄ ما حصل في السابع من أكتوبر كان فاتحة تغيير كبير في منطقة الشرق الأوسط، وفتح الباب مشرعاً أمام إسرائيل لتفعل ما يحلو لها وتمارس هوايتها الأثيرة بمعاقبة الشعبين الفلسطيني واللبناني تستضيف المملكة العربية السعودية هذه الفعالية المهمة نظراً إلى ما تتمتع به من قوة وثقل ديني واقتصادي وسياسي ودبلوماسي وازن يمكنها من تحقيق توازن قوى جديد في المنطقة، وسعياً منها لحشد أكبر إجماع دولي يدعو إلى تطبيق حل الدولتين على الأرض. وهكذا تكون الدبلوماسية السعودية قد وضعت العالم أجمع وعلى رأسه الولايات المتحدة في “خانة أليك” وتحت المحك تماماً، فلن يجرؤ أيّ رئيس دولة في العالم أجمع مهما كان معادياً للفلسطينيين على رفض مبدأ حل الدولتين، وحتى إن كان يعارضه من الداخل. وفي المقابل، سيستثمر معسكر السلام العالمي هذه الفرصة للشروع بتطبيق حل الدولتين على الأرض. هذا الحل هو بمثابة النور في نهاية نفق المجازر والمآسي التي تفتك بشعبنا الفلسطيني منذ ما يقارب القرن من الزمان. إن قيام دولة فلسطين لن تكون له نتائج إيجابية على الفلسطينيين فقط، بل سيكون عامل استقرار مهم في المنطقة ككل وسيوقف دوامة العنف، ومن المرجح أن يوقف تبادل الصفعات بين إسرائيل وإيران، وبذات الوقت سيخرس أنصار اليمين المتشدد من الطرفين. ففصائل الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي وبعض فصائل اليسار الفلسطيني ممن يتلقون تمويلهم من طهران، يعيشون اليوم أسوأ أزماتهم الفكرية والتنظيمية بسبب هول ما تلقوه من ضربات موجعة كادت تقضي عليهم نهائياً. فالسياسة الإسرائيلية الحالية لم تعد تقبل بإضعاف وإبعاد حركات المقاومة عنها جغرافياً، بل تبذل جهداً مضاعفاً للقضاء عليها وقد جهرت بذلك عديد المرات. وقد اقترنت هذه الهجمة الوحشية الإسرائيلية على المقاومة وحواضنها الشعبية بسقوط كافة الرهانات وانكشاف الأوهام والأضاليل العسكرية، بأن إسرائيل لا تستطيع خوض حروب طويلة ولا تستطيع تحمّل الخسائر البشرية أو الاقتصادية، وأنها عبارة عن نمر من ورق، مع الإغفال المتعمد للتفوّق العسكري الإسرائيلي الواسع والشاسع. ◄ المؤتمر يأتي في خضم جملة تغييرات دولية وإقليمية متسارعة في المنطقة، وسط توترات وأزمات إنسانية مزمنة في الأراضي الفلسطينية المحتلة ولكن ما حدث هو العكس تماماً، فقد تُرك الشعبان الفلسطيني واللبناني وحيدين ووجوههم إلى الحائط بعد غياب النصير والظهير المنتظر، ولسان حالهم يعبّر عنه المثل الخليجي المعروف “يا خال أبوي حكّ ظهري”. وفي الطرف المقابل، لن يتمكن اليمين الإسرائيلي المتطرف من تحقيق ما يصبو إليه، بسبب صمود الشعب الفلسطيني وتمسّكه بأرضه وحقوقه، فلن يقبل العالم أجمع بأن تبقى القضية الفلسطينية كجرح مفتوح نازف، لا بد من معالجته وتضميده، ومعالجته تكون بأن يحصل الشعب الفلسطيني على دولته أسوة بباقي شعوب العالم أجمع. ومن الواضح أيضاً أن رصيد التعاطف العالمي مع إسرائيل إزاء ما حدث في السابع من أكتوبر قارب على النفاد أو نفد تماماً. سابقاً استغلت إسرائيل الهولوكوست لاحتلال فلسطين، واليوم هي تستغل ما حدث في السابع من أكتوبر لتُعمِل ذبحاً وقتلاً وتشريداً بالشعب الفلسطيني البريء، وهي تضع نصب عينيها شعارها الأوّل “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”. وفي سياق متصل، لا غرو أن التصريحات العنصرية والفوقية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزرائه مثل يوآف غالانت و بتسلئيل سموتريتش وأشباههما كإتمار بن غفير وصنوه عميحاي إلياهو وزير التراث الإسرائيلي، الذي طالب باستهداف غزّة بقنبلة نووية، تخدم القضية الفلسطينية وتثير ردود فعل متعاطفة معها، وتأتي بنتائج عكسية على حكومة المتطرفين، وهذا أمر لا يحتاج إلى استنتاج. ولا غرو أيضاً أنّ العنجهية الإسرائيلية في التعامل باستعلاء مع التّصريحات المنتقدة لها، تأتي أيضاً بنتائج إيجابية تصبّ في صالح القضية الفلسطينية، كردودها المستفزّة على تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة ورفضها منحه تأشيرة دخول إلى إسرائيل، وردودها الوقحة على رئيسي وزراء إسبانيا وبلجيكا، والسجال الشهير الأخير الذي حدث بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وبنيامين نتنياهو. ◄ المملكة العربية السعودية عملت على مدى عام كامل على حشد الدعم الدولي للحصول على المزيد من الاعترافات الدولية بدولة فلسطين، والمطالبة بالعضوية الكاملة لها في الأمم المتحدة وبالتركيز على الخطاب الذي يتحدث به غُلاة التطرف الديني في إسرائيل والجهر بأفكارهم وأحقادهم، نصل إلى نتيجة مفادها أنه من المحال تغيير هذه العقلية المنغلقة أو تطويعها أو تطويرها، ولهذا نأى الرئيس الأميركي جو بايدن بنفسه وبإدارته عنهم مراراً، وطالب غير مرة بنيامين نتنياهو بتغيير الحكومة الإسرائيلية المتطرفة “لإيجاد حل للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي”. إن ما حصل في السابع من أكتوبر كان فاتحة تغيير كبير في منطقة الشرق الأوسط، وفتح الباب مشرعاً أمام إسرائيل، لتفعل ما يحلو لها، وتمارس هوايتها الأثيرة بمعاقبة الشعبين الفلسطيني واللبناني وتدمير دولتهما واستهداف بنيتهما التحتية بحجة ضرب المقاومة، الأمر الذي استدعى حراكاً دبلوماسياً سعودياً عالمياً يرقى إلى مستوى التضحيات والخسائر العربية في المنطقة. وفي سياق متصل، لا يخفى على متابع ملاحظة الهجمة الشرسة التي تقودها جماعة الإخوان المسلمين على العربية السعودية، والسبب يتمثل بأن الأخيرة رفضت أيّ وجود لجماعة الإخوان على أراضيها كما ترفض التعامل معهم، ولأن السعودية عندما تخاطب الشعب الفلسطيني فإنها تخاطبه من خلال قيادته الشرعية. هذا الموقف السعودي الداعم للاستقرار في المنطقة، يصبّ في صالح الدولة الوطنية التي يجب أن تكون فوق جميع الأحزاب والميليشيات. يأتي هذا المؤتمر في خضم جملة تغييرات دولية وإقليمية متسارعة في المنطقة، وسط توترات وأزمات إنسانية مزمنة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وعليه، فإن الرجاء المرجوّ من هذا المؤتمر هو أن يدفع لوقف حرب الإبادة الشاملة، وفي كسر التكلس السياسي الحالي، وتحريك عملية السلام بما يضمن حقوق الشعب الفلسطيني بإقامة دولته المستقلة، وفق قواعد القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، وهذا ما يعزز الاستقرار الإقليمي والدولي.