لطالما حرص الإسلام بذكر مكارم الأخلاق ومنها حقوق الجار، ولطالما تناقلت الأخبار من التراث العربي والحكايات و الروايا والحكم والأمثال حقوق الجار ، ولطالما تغنى الشعراء والأدباء بحقوق الجار وأهميته، ورسموا صوراً وردية عن العلاقات الإنسانية بين الناس في المجتمعات القديمة..! فقد كان الجار في الزمن الغابر نصف العائلة، يطرق بابك بلا استئذان ليشاركك القهوة، ويسألك عن حالك، وربما أيضاً يجلب لك بعض الطعام إذا شعر أنك لا تملك ما يسد جوعك. كان الجار رمزاً للتكافل الاجتماعي، وفي بعض الأحيان، كان يتجاوز ذلك إلى أن يصبح مستشاراً شخصياً لشؤون حياتك! أما اليوم، فقد تغيرت الأمور، وتحولت العلاقة مع الجار من علاقة قائمة على التواصل الإنساني إلى علاقة من نوع آخر: علاقة قائمة على “كلمة السر” لشبكة الإنترنت الخاصة بك أو به، فالجار في عصر التكنولوجيا بات مجرد إشارة “واي فاي” تمر عبر الحائط، وقد يكون التواصل معه مقتصراً على تغيير كلمة المرور بين الحين والآخر، لكي لا يستمتع الجار بالخدمة المجانية لفترة أطول..! في الماضي، كانت كلمة “الجار” تعني جارك الذي يبعد عنك سبعة بيوت على الأقل، وكانت الأبواب مفتوحة دائماً، والقلوب قبل الأبواب. لكن في يومنا هذا، يبدو أن الجار هو الشخص الذي تراه في المصعد ثلاث مرات في الأسبوع، وتلقي عليه التحية المقتضبة وأنت تحمل هاتفك وتبدو مشغولاً جداً بأمور الحياة الرقمية. ولنتحدث بصراحة، هل حقاً ما زال للجار ذلك المعنى السامي الذي كان له سابقاً؟ مع كثرة التطبيقات والتواصل الافتراضي، يبدو أن الجار أصبح أقرب إلى “شبح” تسمع عنه ولا تراه. وفي حين أن الناس كانوا يعرفون حتى أسماء أحفاد جيرانهم، بل قد يعرفون حتى تواريخ ميلاد الأبناء أما اليوم بالكاد يعرف البعض اسم الجار الذي يسكن بجواره في المدن الكبرى، لأن العلاقة بين الجيران أشبه بالعلاقات في الأفلام الصامتة: تعابير قليلة، ونظرات سريعة، وتجنب للتواصل غير الضروري. هذه المدنية التي يتحدثون عنها تلتهم كل ما هو جميل في العلاقات الإنسانية، حتى إن البعض قد يعيش لسنوات طويلة في مبنى واحد دون أن يعرف من يقطن بجواره. أصبح الفرق شاسع في العلاقة بين الجيران في الحارات القديمة والأحياء الجديدة. في تلك الأيام، كان الجار يشعرك وكأنه فرد من عائلتك الكبيرة، يجلس معك في الحارة يقابلك أثنا خروجك من منزلك إلى المسجد أو إلى البقالة ، ويسألك عن صحتك و صحة أبنائك و يناقشك في أمور الحياة وأحداثها المتغيرة و يناصحك ويبدي رأيه بكل أمانة أن استشرته في مصلحة ،ويشاركك الأفراح والأحزان، وربما حتى يغضب من أجلك..! ، الجيران في تلك الحارات كانوا يشكلون مجتمعاً مصغراً، ويعرفون أدق تفاصيل حياة بعضهم البعض. أما في الأحياء الحديثة، فقد وفرت النوادي ومساحات اللعب المشتركة بديلاً اصطناعياً لعلاقة الجار بجاره ، تجد الجيران يجتمعون في المناسبات الرسمية بوجوه مبتسمة، لكن كل واحد منهم يعود إلى عالمه الخاص بمجرد انتهاء المناسبة. التواصل أصبح سطحياً، وكأن التكنولوجيا زرعت حاجزاً بين الناس لا يُرى لكنه موجود بقوة ويشكل عائق بينك وبين جيرانك.! يبدو أن مفهوم الجار قد تلاشى في خضم المدنية والتكنولوجيا. ربما الجار الآن هو “إشارة” تمر عبر الحائط، أو صوت خطوات غريبة في الممر..! العلاقات الإنسانية تغيرت، والجيران تغيروا معها. لكن لا بأس، طالما أن كلمة مرور شبكة الواي فاي لا تزال تعمل، فالعلاقة “على ما يرام”.