التضاريس على الأرض هي حكاية الجمال على اليابسة، بتنوع أقسامها التي من أهمها، الجبال الشاهقة والأودية الخصيبة وروافدها إحدى السمات الطبيعية التي كثيرًا ما يكتنفها الغموض المحمل بأسرار التاريخ من الوجود الإنساني فيها، حتى أصبح لكل وادٍ حكاية تخصه، وسنتناولها من خلال البعدين الجغرافي والتاريخي (الذاكرة الشعبية). والأودية عموماً هي نتاج عوامل التعرية من المياه والرياح والتجوية على مر آلاف السنين التي ألبست مناطقنا لباس الجمال والروعة، حتى غدت هذه الأودية بطبيعتها الخلابة ومناظرها الساحرة من أهم عوامل الجذب السياحي بشقيه الترفيهي والثقافي، وخاصة سراتي النمر ودوس الواقعة في محافظتي بني حسن والمندق ، تنطقان بمفردات الجمال والطبيعة والتاريخ وهذه المفردات تعتبر من أهم مصادر الإلهام والأبداع والسفر والسياحة. وتاريخ الأودية حافلٌ وضخم بمكتسباته وقيم الناس ومعايشهم حولها، حتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياتهم، ينتظرون فيها مواسم الأمطار لتتشكل لهم مصادر الزراعة التي كانت في الماضي ـ ولاتزال ـ من أهم المصادر التي يعتمدون عليها. وحديثنا في هذا المقال عن وادي الدُبدب، وما اتصل به من أودية أشهرها وادي العقب وحندلة ، وهي من أودية محافظة المندق، وربما اكتسب اسم “الدُبدب” من معاني تم التعارف عليها قديماً كالدبل والدبول، والدُبدب ـ لغة ـ كل صوت حافر لدابة أو غيرها على الأرض أو الصخر، ومنها صوت خرير الماء مع الحصى تحت الأرض، وربما هذا المعنى هو الأقرب إلى تسمية الوادي بهذا الاسم يقول المتنبي: (وَأَمواهٌ تَصِلُّ بِها حَصاها …. صَليلَ الحَليِ في أَيدي الغَواني) والدبل جمعها دبول، وهي في نواحينا عبارة عن مجاري مياه تجرى من تحت المصاطب الزراعية للحفاظ على الرقعة الزراعية من زيادة الماء، الذي بدوره قد يؤدي إلى خراب المحاصيل، وقد اخترعها وأعدها أجدادنا القدماء بطرق فنية غاية في الدقة كانت الحاجة إليها ماسة. ووادي الدُبدب علامة مميزة يعرف به جريان الماء، حتى قالوا: “إذا جرى الدُبدب ظهرت الرجاعة في الأرض”، ويشتهر هذا الوادي بخصوبته وكثرة موارد مياهه ويلتقي مع أودية أخرى ومزارع خصبه تنتج الكثير من المزروعات، كالرمان والسفرجل والبخارة والتين الشوكي والحماط وأكثرها العنب، كما أورد ذلك السلوك في معجمه: يذكر شهرته بزراعة العنب الأبيض والأسود. وأيضاً الذرة (حب الحاج) ويعيش حيوان “النيص” ويتكاثر داخل تلك الدبول، وهو حيوان معروف كان يأكله البعض، ويكلأونه بالليل لأنه عدو للحبش ويذكر أنه ـ بطريقة ماـ يقوم بتنظيف تلك الدبول من الشوائب والدواب الزاحفة. ولفظ الدُبدب اسم للجزء من ذلك الوادي، الذي يتكون من الوادي الشرقي والغربي “البحري” ويبدأ الوادي الغربي من جبل الأنصب “وادي الأيكة ” ثم المعدى ثم وادي علقة فكظامة أم الساعد ثم الدُبدب، ويبدأ الوادي الشرقي من قرية الجماجم ثم وادي الحازم ومولغ ثم وادي العوارق والنواشي ويلتقي مع الوادي الشرقي في الدُبدب وتصب في وادي بقاق ثم القعاب ومغُره ثم وادي العقب سد الأحلس وسد جحوش ثم الفوقاء ووادي حندلة، ثم جلال حبان ثم وادي شقيق ثم وادي الطرف الذي يلتقي مع وادي الشاعر ووادي رسبا وتصب جميعها في وادي تربة وهو من الأودية الفحول. وعلى امتداد هذي الأودية تتكون عدد من الكظائم والجلال والعيون والغدران، منها كظامة الدُبدب وأبو السعد والغربة وغدران عيد وغدير الفوقاء وغدير الوقبه وعين الّصْيقلة وغيرها وتمر تلك الأودية منحدرة وسط مجموعة من الجبال المكسوة بمناظر خلابة من الغابات والأشجار، وكأن هذه الجبال تحرس تلك الأودية، وتمدها بالمياه خلال هطول الأمطار، ومنها جبل الأنصب والكرش وجبل البنامة وجبل الحلي وجبل أبو ذروة وجبل الأحلس وجبل فران والزوغ وجبل السرين والهُديه وريع الشنعة وجبل مقضب وغيرها. وأغلب أسماء هذه الأماكن اكتسبت مسمياتها من صفات المكان ومعانيه وما تعارف عليه الناس، وعلى سبيل المثال: (القِعاب) أجزاء من الأرض مقعرة تمتص الماء “تقعبه” وهي أشبه بمستنقعات الماء (العَقِب) آخر الشيء، (الأحلس) كل ما يلي الظهر وأحلست الأرض اكتست بالخضرة، (الفوقاء) من العلو، وقد عاشت حول هذه الأودية قرى قديمة ما زالت باقية أطلالها حتى الساعة، منها حصن مستور بوادي حندلة المكون من خمسة طوابق وبقايا قرية، وعلى مسافة منها لا تتجاوز الثلاثة كيلومترات تقع قرية دار الحدب وحصن كامل، وهي عبارة عن بقايا أطلال عدد من المنازل والملاحق وحصنين أحدهما يسمى حصن كامل، ويتكون من خمسة طوابق وهو الأكبر، والآخر حصن سويد وتحيط بها مقابر كبيرة، ويقال أن أهلها كانوا يعملون في التعدين وتجارة الذهب، وللعلم فهي على نفس طراز حصن مستور ولعل هذا الطراز من سمات الفن المعماري في تلك الآونة من مراحل البناء وهي “المرحلة الوسطى” والتي تميزت مبانيها بالضخامة وكبر الدور. وهذه الأودية لها تاريخ عريق بما تحتوي عليه من الخصوبة والنماء وتوفر المياه وقيام الزراعة، وتلك هي دعائم الاستقرار والوجود الإنساني وحياة الناس، حيث كانوا يقضون فيها جل أوقاتهم، وبدورها قامت الحضارة بتلك المناطق فأصبحت غنية بموروثاتها من الآثار والنقوش. وهذا الوادي واحد من عشرات بل مئات الأودية الخصبة في منطقة الباحة، وتزداد أهمية وادي الدُبدب وما اتصلت به من الأودية بكونها مشتركة بين قبيلتي بلخزمر وبني كنانة، إضافة إلى كونها تمر منها طرق وعقاب تربط القرى بعضها ببعض، وكذلك طرق الحج السروي وطرق الأسواق، كطريق سبت المندق وطريق سوق ربوع الصفح ، كما ان هذه الأماكن والطرق من هذه الأودية داخله ضمن حدود عقود السوق، وقد وردت أسمائها في شدة “سوق الربوع” المؤرخة في سنة 1179 هـ: “وإن حَدّ عقد سوقهم من مختصر الشنُّعَة إلى رأس أبو ذروة إلى رهوة الدبدب إلى مروة علقة إلى حصن السليل” وعلى امتداد هذا الوادي وُجدت آثار “نقوش” اكتشف بعضها، مثل نقش: “فما حملت من ناقة فوق رحلها أبر وأوفى ذمة من محمد” قيل فيه أنه أمدح بيت قالته العرب، وهو مُختلف في قائله، فقيل إنه لحسان بن ثابت وقيل إنه لأنس بن أسيد الديلي الكناني، وقد تناوله بالشرح الباحث الأستاذ إبراهيم الزهراني، كما قدم شرحاً ـ في مقال له ـ عن قرية كامل. ولهذه الأودية والقرى المتصلة بها وجود في الذاكرة الشعبية حيث وردت أسماؤها في بعض الأشعار الشعبية والحكايات، فتُروى حكاية طريفة لامرأة عجوز سرقت بقرتها أثناء طريقها من وادي حندلة وهي عائدة من سوق المندق، كانت تقود بقرة بحبل حيث هاجمها اثنان من السراق وقاموا بخداعها بقطع الحبل المربوط فيه البقرة، وحل محل البقرة أحدهما، واستمر بالمشي خلف العجوز ليوهمها أنها لاتزال تقودها، ودون أن تشعر هرب الآخر بالبقرة، وعندما أحست العجوز بما حدث صرخت، وأسرع بالهرب من كان يمسك بالحبل، وبأسباب هذه الحادثة امتنع أهالي تلك النواحي ـ ومنهم قريتي رسبا والطرف ـ عن هبوط السوق، وقاموا بمقاطعته وأقاموا لهم سوقاً في وادي حندلة حتى تدخل المصلحون بتأمين طريق السوق وإرجاع الحق لأصحابه. وقد حفظ لنا الشعر الشعبي وخلد بعض أسماء تلك الأماكن، يقول أحمد بن محمد رحمه الله: حي الله من يحرث في القاسيه واعتام زربً على الفوقا وشعب الدوي والشنعة واللى تعدا في العقب بي نعاقبه ومن ذلك ما يروى عن مبارك بن بنان، صاحب الصوت الشجي، كان إذا أشرف من جبل السرين على هذي الأودية يتغنى بطرق الجبل، فيطرب له كل من في الوادي وتردد صدى صوته الجبال، حين يتغنى بقصائد بن جبران ذاكراً فيها أسماء بعض القرى: قال أحمد “أم “جبران لو بشكي على الفُوق مات ورشة ما طلع فوق … وأمهلت لك يا راعي الحنا في الأيسار مُهلة طويلة بالسنة والشهر والدور واعطيتك المهلة بمقدار حتى تظِلي الدركة أشكل من بني سار ويل شِبل تَكسع كما محوِية بالجور وفُوق بو سمراء يمِيل ونيس يسنَى وقد أدركت الدولة حفظها الله أهمية هذا الوادي فقد أقامت وزارة البيئة والمياه والزراعة مشكورة ببناء سد في هذا الوادي يعرف بسد الدُبدب، وكذلك قامت ـ من قبل ـ بحفر بئر يسمى بئر فيصل في وادي حندلة، وكان عليه شبكة تغذي أهالي قرية الحلاة بالمياه. ومن هنا نتطلع من المسؤولين الكرام في الأمانات والطرق النظر في هذي الأودية وربط وادي الدُبدب بوادي العقب والفوقاء ووادي حندلة إلى قرية الطرف بطريق مزفلت، لتسهيل حركة الناس في إطار توجيهات الدولة نحو التنمية السياحية، خاصةً وأن هذي الطرق المشار إليها تحديدًا مسافتها ليست بالطويلة، وفي تقديرنا لا تتعدى خمسة عشر كيلومترًا، وخاصة الوصلة بين وادي حندلة وقرية الطرف فهي لا تتعدى ثلاثة كيلو مترات، وقد أقيمت فيها مؤخراً عدة مشروعات للجذب السياحي؛ منها قرية الأطلال التراثية، ونُزل ومقهى ريف الوادي في (العَقِب)، ونزل السرين في وادي حندلة، وفي آخر هذا الوادي حصن كامل. وقرية الطرف تقع بها مزرعة البروقي السياحية وجميعها تشهد إقبالاً كبيراً من السائحين والزوار، ومن المؤكد أنه لا أحد ينكر جهود ودور حكومتنا الرشيدة المتمثلة في وزارة الثقافة على مستوى المملكة عموما في الحفاظ على الآثار وزيادة الوعي بها وتطوير مناطق الجذب السياحي. واستمراراً لتطلعات وجهود سمو أمير منطقة الباحة، صاحب السمو الملكي الأمير الدكتور حسام بن سعود بن عبد العزيز، جاءت الإثنينية الكريمة المنعقدة يوم 22/2/1446هـ، لتكون جلسة ثرية، أفدنا منها واستمتعنا بما دار فيها من نقاش عميق، حيث خصصت للاطلاع على التراث والآثار التاريخية بالمنطقة، وقد عكست مدى الوعي بأهمية التراث وضرورة الحفاظ عليه، وقد شرفت بحضورها مستجيبا وشاكرًا لدعوة كريمة وصلتني، وفي هذا الإطار دشن سموه ـ حفظه الله ـ جمعية ديار لحفظ التراث والعناية به في محافظة المندق، فكان كل ذلك الدعم وتلك التوجهات الكريمة، رافدا غنيًا يصب في مضمون مستهدفات رؤية المملكة 2030 … فتحية تقدير واجلال لكل الجهود المباركة في هذا المجال.