قابلت المرحوم نزار حمدون، عندما كان سفيراً للعراق في واشنطن، عند حضوره ندوة عن مجلس التعاون، عقدت في واشنطن عام 1988، تحدثت فيها عن مجلس التعاون وتعامله مع الحرب العراقية - الإيرانية، شارحاً للحاضرين حرص المجلس على تأكيد استقرار المنطقة، ومسانداً قرارات مجلس الأمن بوقف الحرب، والحفاظ على سلامة الحدود الدولية بين الطرفين. وبعد الانتهاء من مداخلتي، وقبل بدء الأسئلة، جاء السفير نزار إلى المنصة معتذراً عن عدم مواصلة حضوره لارتباطات مهمة، وشكرني على إبراز الموقف العراقي الدائم لوقف الحرب. لم ألتق به ثانية، حيث عدت إلى الرياض وسط ثناء من الخارجية الأمريكية ورجال الصحافة فيها على اعتداله ومنطق دفاعه عن العراق. أشاد كثيرون ممّن قرأوا مذكراته «رحلة حياة دبلوماسية»، أصدرها في 450 صفحة، بالإضافة إلى نسخ من المراسلات المتبادلة. قرأت الكتاب بحرص على التعليق الموضوعي على محتوى الكتاب المملوء بوثائق ومحاضر واجتماعات وصور من مذكرات متبادلة بين العراق وواشنطن، متضمنة خلاصة المداولات بين الرئيس صدام حسين ولقائه مع السفيرة في 25 يوليو 1990، ومع القائم بالأعمال الأمريكي في 6 أغسطس 1990، ومع طارق عزيز، ومعه كوكيل للخارجية، وينهي المؤلف كتابه مع الغزو العراقي لدولة الكويت، وأداء الجيش العراقي في ميدان المعارك، مشيراً إلى عبثية عملية الغزو، التي انتقدها لاعتمادها على قلّة موثقة من الحرس الجمهوري، وعلى إدارة شؤون الكويت من قبل أسرة الرئيس، وضخامة سرقتهم، ووقاحة سلوكهم. ولأن الكاتب ضمّ جميع ما رآه مناسباً من الوثائق في كتابه، فلابد من الإشارة إلى تعليقاته، التي تعبّر عن مواقفه من مؤامرة الغزو. لاحظت خلو الكتاب تماماً من الإشارة إلى العلاقات الثنائية قبل الغزو وتصاعد التوتر، واحتمالات الانفجار، وكذلك غياب أي ذكر عن مواقف حكومة الكويت قبل الغزو، وخلال الشهور التي كانت فيها تدير عملية التحرير من أراضي المملكة. أولاً: كانت الملاحظة السلبية هي جهل القيادة العراقية بالواقع الدولي، وعجزها عن تفهم المعارضة العالمية الصلبة لقرار الغزو، مع قوة الإصرار على الانسحاب، وغشامة تصوراتها بإمكانية إغراء الولايات المتحدة بتحولات العراق سياسياً واقتصادياً وإستراتيجياً نحو الولايات المتحدة، واسترضائها بتوفير فائق النفط الذي تريده لحلفائها. ويتصوّر الكاتب أن هذه الأحلام تكشف المستور عن قصر القيادة في فهم حقائق السياسة ومحتوياتها، وتداخل مصالح الأسرة العالمية ومتطلباتها في ضرورات استقرار أمن الخليج، دون سطوة من راديكالية حزبية، لا ترابط لها مع الواقع العالمي. ثانياً: يتحدّث الكاتب عن الغرور الطاغي، الذي تمكّن من سلوك القيادة وقدرتها على تبسيط العوائق، التي تقف أمام أوهام السلطة، متصورة أن الولايات المتحدة لن تلجأ إلى القوة، وإنما تناور وتخيف إعلامياً، وأنها قد تطلق عدداً بسيطاً من الصواريخ وتتوقف، وربما خوفاً من الالتحام بالجيش العراقي، الذي يؤمن الرئيس وزمرته بأنه قادر على تطويق التهديد الأمريكي، وعلى صد تحركاته التي يستخف بها صدام حسين. ثالثاً: يتحدّث الكاتب بوضوح عن استغرابه من محتوى المذكرات الأمريكية وبياناتها، التي قدمتها السفارة الأمريكية كمواقف أمريكية لعلاج الأزمة، وضعف مفرداتها وغياب الصراحة بأن واشنطن ستحارب لتحرير الكويت دون مكافأة ينالها العراق من قراره الخطير والمربك، وكانت رؤيته بأن هذا الضعف أوحى للقيادة العراقية، التي تتشكل من شبه أميين، بإمكانية اصطياد الموقف الأمريكي. رابعاً: يشير الكاتب إلى أن الرئيس صدام حسين اعتمد في قراره على تأييد الأردن، واليمن والسودان، وتونس، وطبعاً عرفات، والجماهير العربية، والمنظمات الفلسطينية، مستغلاً أحلام الجماهير الفلسطينية في توظيف الغزو، متوقعاً احتمالات صفقة تحقق لأهل فلسطين شيئاً من الحلم، وحصول صدام على ترتيبات على حساب الكويت، تحقق بعض أهدافه. خامساً: يعلق الكاتب بأن صدام وحاشيته من أفراد الأسرة، لم يتمكنوا من هضم جدية الولايات المتحدة في تحرير الكويت، ولم يجرؤ أحد من مساعديه على تأكيد الحقائق له، وواضح من مسار الكتاب في تدوين الأحداث، أن وزير خارجية العراق، طارق عزيز، لم يخرج عن دوره في تنفيذ تعليمات صدام، وكذلك دور الآخرين. سادساً: وضح من محتوى الوثائق، التي حملها الكتاب، أن صدام حسين وزمرته يتصرفون لكسب الوقت وإطالة الانتظار، خصوصاً بعد قرار مجلس الأمن بتحرير الكويت في 15 يناير 1991، وكان ذلك عاملاً في فشل خطة واشنطن لزيارة وزير خارجية أمريكا إلى بغداد في ديسمبر 1990، وتنظيم زيارة طارق عزيز إلى واشنطن في الأسبوع الأول من يناير 1991، قبل أيام من بدء المعارك، كما تم تأخير مقابلة السكرتير العام للأمم المتحدة مع صدام حسين لمدة 24 ساعة، ويلمّح الكاتب إلى أن صدام ظل يتوقع تحركات جماهيرية في الشارع العربي، ليكون لها دور في إبراز مستجدات تؤثر على الحسابات الأمريكية. سابعاً: ينقل الكاتب أحلام القيادة في تقييم قدرة الجيش العراقي على تطويق العمليات البرية، التي ستتم بعد دور الطيران الأمريكي، واضعة هذه القيادة جميع أملها في إفشال الوصول الأمريكي إلى الأراضي الكويتية - العراقية، متصوّرة أن الأمريكان لا يتحملون ضحايا الحروب، وأنهم يتحصنون بالجو وبحماية الطيران، متحاشين المواجهة البرية. ثامناً: لم يترك صدام ومساعدوه باباً يمكن أن يحقق تأخير المواجهة والتسويف، مستنجدين بالأمريكيين من أصول عراقية، الذين يمارسون التجارة، ولهم اتصالات مع الكونغرس، ومجلس الشيوخ، وأبرزهم السيناتور دول، وفوق ذلك، استغلال الزيارات الى بغداد من القسيس جاكسون، زعيم السود في شيكاغو، ونجم الملاكمة محمد علي، ومن وزراء سابقين، أبعدوا لمسببات داخلية، ولم تعط الإدارة الأمريكية فرصة لأي من هذه المجموعات للاقتراب من الموقف الأمريكي الصامد في الانسحاب التام ومن دون مكافآت، وأغلقت جميع احتمالات التفاوض. تاسعاً: يلاحظ الكاتب أن صدام حسين بدأ يشعر، من خلال التصريحات، التي يطلقها خلال قمم مجلس الرباعية (الأردن ومصر واليمن والعراق) حول التهديدات الأمريكية، وتعالي صوته لإخراج أمريكا من الخليج، الأمر الذي ولّد في عقله التركيز على تضخيمه هو شخصياً لأهمية دوره في حسابات الكبار، وعن تخيله لرغبة أمريكا بترضيته، والتعامل معه في المنطقة على أساس لا يمكن تجاهله، كما يعلّق على المذكرة، التي أرسلها العراق، وفيها تصعيد حاد في العلاقات العراقية - الأمريكية، فمن يقرأ النص يبدو له أن العراق هو القوة العظمى في مقابل دولة أصغر وأضعف. عاشراً: يلاحظ السفير نزار أن برامج التسلّح العراقي الضخمة كانت تجري على قدم وساق، وكان حسين كامل وزمرته يجوبون الأرض طولاً وعرضاً، حاملين ملايين الدولارات لشراء ما تحتاجه مكائنهم الصناعية العسكرية، ويبدو هذا النمط السلوكي المتكامل، قد كان مخطّطاً له في ذهن الرئيس منذ زمن، لكي يختم بدخول الكويت والتهامها والوصول إلى الخليج، كما يُلاحظ من إدارة الدولة بيد الأقارب المشرفين، على تعدد مؤسسات المخابرات، مع تحجيم مؤسسات الدولة وانحسار دورها. أحد عشر: استغرب الكاتب ترتيب اغتيال حردان التكريتي، من قبل المخابرات العراقية، ويستغرب استخفافها بسيادة الكويت وتحقيرها لمفاهيم القانون الدولي، كما يصف الغزو حماقة احتلال الكويت، وعند لقائه صباح الغزو مع طارق عزيز، في مبنى الوزارة، أخبره عن أسلوب المواجهة، وأن الخطة مرسومة على تخويف السعودية بالصواريخ لتحييدها، وهذه خطّة تبناها صدام حسين، وكانت عملية الخفجي أحد مظاهرها، والتي يقول الكاتب إنه قُتل فيها أربعمئة عراقي. ثاني عشر: اجتمع طارق عزيز بالقائم بالأعمال الأمريكي صباح يوم الغزو، ونقل إلى الدبلوماسي الأمريكي موقف العراق، كما جاء في ص 311 من الكتاب، وجوهره ثورة الكويت من الضباط الكويتيين، من جهات صديقة للعراق، لا طموح للعراق في الكويت، ولا يتدخل في شؤونها، سينسحب الجيش العراقي خلال أسابيع، ويؤكد العراق رغبته في صداقة الولايات المتحدة، كان رد الدبلوماسي الأمريكي أن أمريكا تريد الحل السلمي. ثالث عشر: في 6 أغسطس 1990، يستدعي صدام حسين القائم بالأعمال الأمريكي السيد ولسون، ليؤكد الصداقة والرغبة القوية في علاقة عميقة سياسياً ونفطياً وتجارياً، وتفاهمات ثنائية وإقليمية، في محاولة بليدة للتأثير على الموقف الأمريكي. انصح الكويتيين بقراءة الكتاب المملوء بوثائق متنوعة تسيّدتها أوهام صدام.