ما إن تطوفَ بمكَّة المكرمة وفجاجها الخَالدات، وتتراءى لك طرقُها العامراتُ بالسَّواد العَريض من قُصَّاد هذا البَيت الجليل ونُشاد نفحاته؛ فيقع منك الطَّرف على ذلك المشهدِ المهيبِ من اختلاف الألسنة والألوَان، وتباين الطَّبقات والثَّقافات، والأُفق البعيد المتَنَائي الذي قدمُوا منه وتوافدوا رجَالات ورُكبانا؛ توجُّدًا ترتعد منها الفَرَائص، وعشقًا يبرِّح القَرَائح؛ لتدركَ بعمقٍ وتبصرَ عن كَثَب أنَّ ذلك الوعد الإلهي القرآني لا يزال صادق الوقعِ متجدِّد النِّداء لأولئك الأطهَار المتيَّمِين؛ وذلك لما قال المولَى تعَالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وأمنًا﴾ [البقرة: 125]؛ يَقُولُ ابن عبَّاس [ت: 68هـ] رضي اللهُ عنه: “لَا يَقْضُونَ مِنْهُ وَطَرًا؛ يَأْتُونَهُ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ، ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَيْهِ” [تفسير الطبري: 2/518]، وقال المفسِّر ابنُ كثير [ت: 774هـ] رحمهُ الله: “أَيْ: جَعَلَهُ مَحَلًّا تَشْتَاقُ إِلَيْهِ الْأَرْوَاحُ، وَتَحِنُّ إِلَيْهِ، وَلَا تَقْضِي مِنْهُ وَطَرًا، وَلَوْ تردَّدت إِلَيْهِ كلَّ عَامٍ” [تفسير ابن كثير: 1/413]. إنَّ هذه التركيبةَ المعجزةَ من حُب هذا المكان الطاهر، وتجدد الشَّوق له ولجنابه المحرَّم ولساحاته العطِرات ولبقاعه المقدَّسة: لإيمانٌ وصدقُ برهان وعينُ يقين، بأنَّ الله -تعالى- لما ألهمَ إبراهيمَ الخليل -عليه السَّلام- ذلك الدُّعاء، وهو في مفازةٍ من الأرض ومنقطعٍ عن الأهلين: لهو الإرادة الكريمةُ والحكمة اللطيفةُ والنفحةُ الربانية والاختصاص الذي لا يُبارى أو يُدانى، لما أجابَ اللهُ هذا الدُّعاء ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ [إبراهيم: 37]؛ قَالَ مُجَاهِد [ت: 104هـ] رحمه الله: “لَوْ قَالَ: “أَفْئِدَةَ النَّاسِ” لَزَاحَمَتْكُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ وَالتُّرْكُ وَالْهِنْدُ” [تفسير البغوي: 4/357]، وألمح الإمامُ الواحدي [ت: 468هـ] -رحمه الله- إلى أنَّ الآيةَ لم يُقل فيها: “فاجعل الناس تهوي إليهم”؛ وذلك للإشارة إلى أن سعيَ الناس إليهم يكون عن شوقٍ ومحبَّةٍ، حتى لكأنَّ المسرع إلى هذا الجوار الطيِّب هو القلبُ والروحُ، وليس الجسد وحدَه. فللَّه كم لهذه البُنيةِ المعظَّمة والبلدةِ المحرَّمة؛ “من قتيل وسليب وجريح، وكم أُنفق في حبِّها من الأموال والأرواح، ورضي المحب بمفارقة فِلَذِ الأكباد والأهل والأحباب والأوطان، مقدمًا بين يديه أنواع المخاوف والمتالف والمعاطف والمشاق؛ وهو يستلذُّ ذلك كله ويستطيبه ويراه -لو ظهر سلطان المحبة في قلبه- أطيبَ من نعم المتحلِّية وترفهم ولذاتهم” [زاد المعاد: 1/29]. لا يرجع الطرفُ عنها حين ينظرُها حتى يعودَ إليها الطرفُ مشتاقًا وقد أخذ هذا السرُّ الإلهيُّ المبثوث في الأرواح والسَّاري مع النَّسمات في الأَصلاب والأَعقاب، أنماطًا وسياقاتٍ متعدِّدةٍ ومتجدِّدة؛ من الوَجد والتحنُّن والهيامِ ببيت الله، وبَذل حُمر المهجِ وتِلاد الأموال وركوب الأهوال وقطع المفاوزِ ومفارقةِ الرَّغد ومُناحرة الهلكة؛ فأيُّ سرٍّ قذفه اللهُ في هذه القُلوب؟!، وبثَّه في هذه الأرواح؟!؛ حتى تتعامَى وتتصَام عن كلِّ مُقلقٍ ومُؤرِّق، إلا الوُرود على حوضِ مكة والنَّهل من معينِها العَذب النَّمير، أيُّ أرضٍ في هذه الدُّنى، تُلامس أو تَطول هذا الفَخَار والفَخَام؟! لمكَّة المكرَّمة، قدَّس الله سرَّها المكنُون. وفي هذا الدِّيوان المجيد من دَواوين الشَّوق للمَرَابع والدِّيار، والتَّغني بوسُوم الطَّلل والرُّسوم الشَّاهدات، نجد أن دِيوان مكَّة الشِّعري؛ هو موسُوعة الدُّنيا، وعنوان التعشُّق، وساحة شُجعان الحَرف والكِلم، ومهرَاقة دماء قلوب أولئك القَوم؛ وسنقفُ من دِيوان الشَّرف هذا على صفحةٍ تعصر الكبدَ أَلما، وفصلٍ يسطِّر في الخافقين مجدًا وأَلَقًا؛ إنَّه شعرُ وأدبُ أولئك الغُرب بُعد الآفاقِ أكنَّة المشَارق والمغَارب، حَمَلة الحبِّ الصَّادق على أكفِّ القَصَائد الطَّاهرة؛ مَن كَحُلت مكةُ بلواعج شَوقهم، وَسَامرت فيهم ليلًا مديدًا من هَاجس مُعاناتهم وَوَصلهم، وأَسبل حرفُ شعرهم كلَّ مدمعٍ مدرارٍ ونفسٍ توَّاقةٍ شغوفٍ لتُرب وعَرف وصَبا ذلك البَلَد الأَمين، وذلك الجِوار الطَّيب الطَّاهر. ومن مَشَاهد هذه الصَّفحة الكريمة في حب مكَّة العظيمة؛ يبتدؤُنا مشهدٌ عاطفٌ وعاصفٌ، يُسجل من أولئك القوم نفثةَ الغرام التي في صُدورهم، وأُنشودة التَّيه بين فِجاج مكة وشِعابها، وتميمة السِّحر الحلال الذي عقدتهُ أناملُ هذه البُقعة المقدَّسة في مُخبآت صُدورهم. فمِن ذلك: ما أنشده أبُو اليُمن ابن عَسَاكر [ت: 686هـ] المحدِّث المشهور، الدمشقيُّ نزيلُ مكَّة بأَخَرَةٍ: يا جيرتي بين الحُجُون إلى الصَّفا شوقي إليكم مجملٌ ومفصلُ أهوى دِياركم ولي بربوعِها وجدٌ يُؤرقني وعهدٌ أولُ ويزيدني فيها العذولُ صبابةً فيظل يُغريني إذا ما يعذلُ بالله قل لي: كيف تحسنُ سَلوتي عنها وحسن تصبُّري هل يجملُ هل في البلاد محلةٌ معروفةٌ مثل المعرَّف أو محل يُحللُ أم في الزمان كليلة النَّفر التي فيها من الله العَوَارف تُجزل أم مثل أيام تقضَّت في منى عُمر الزمان بها أغرٌّ محجلُ [تاريخ الإسلام: 15/573] وأنشد بدرُ الدِّين ابن جمَاعة [ت: 733هـ] القَاضي، صاحب التَّصانيف الذَّائعة: يا سائقَ الأظعان إن جُزت الحمى سلِّم على مَن بالمحصَّب داره واشرح له ما يلتقِي مشتاقه من فَرط شوق أحرقته نَاره يصبو إذا ذكر الحَطَيم وزمزم والركنَ والبيت المكرم جَاره ويهيم من شوقٍ يفتت كبده إذ عزَّ ملقاه وطالَ مزاره [شفاء الغرام: 2/351] ويُحكى أنَّ بعضَ الصالحين رأى الحاجَّ في وقت خروجهم؛ فوقف يبكي، ويقول: واضعفاه! ويُنشد على إثر ذلك: فقلتُ دعوني واتِّباعي ركابكم أكن طَوع أيديكم كما يفعلُ العبد ثم تنفَّس، وقال: هذه حسرةُ من انقطع عن الوصول إلى البيت، فكيف تكون حسرةُ من انقطع عن الوصول إلى ربِّ البيت؟! يحقّ لمن رأى الواصلين وهو منقطع أن يَقلق، ولمن شاهد السائرين إلى ديار الأحبَّة وهو قاعد أن يَحزن [لطائف المعارف: ص416]. وينشدُ مهيار [ت: 428هـ] الأديبُ ذو البَلاغتين، وهو يتعشَّق -على بُعدٍ- تلك الدِّيار من مكَّة: وما بنا إلَّا هوى حيَّ على خيف منى يا حُسن ذاك موقفا إن كان شيئًا حسنًا من لعيني أن تَرى تلك الثَّلاث من مِنى وقفتُ أستسقي الظَّما فيه وأستشفي الضَّنا كان الغرامُ المشترى وكان قلبي الثَّمنا [مثير الغرام الساكن: ص208] ثم يتجدَّد ذلك المشهد، وتزداد الصُّورة الشعرية عطاءً أدبيًّا سخيًّا، وذائقةً مُبدعة الوصف مُغدقة البيان؛ وذلك عندما يسوقُون نحورَ المطيَّ وأكبادَ الرَّواحل، ويُنادي رائدُهم في مجمع الشَّوق هذا بحيَّ على الرَّحيل والبدَار البدَار لتلك الدِّيار، ثم يضربون في الأرضَ حُفَاةَ الجَوَانح شُعث الأَمَاني غُبر المرامَات، ويطوُون مناكبها ما طَالت أو عرُضت أو دَنت أو بعُدت أو أتهمَت أو أنجدَت أو سَهلت أو حزَنت؛ لا يردُّهم عن تلك الغَاية الغرَّاء والحظِّ الأَسعد الأَمجد عَظيم الخطُوب أو جَسيم الحتُوف أو طوارق الليل والنَّهار، ولسانُ حالهم ولحنُ حاديهم: وليس مُحِبًّا من يعدُّ شقاءه عذابًا إذا ما كان يَرضى حبيبُه ومن أدبيَّات هذا المشهد النَّوراني الرَّوحاني، لأولئك الآفاقيين الشُّداة، ما أنشده الأديبُ الواعظُ أبو بكر ابن رشيد البغدادي [ت: 662هـ]، في قصيدةٍ نفيسة سمَّاها “الذهبيَّة في الحجة الملكيَّة والزَّورة المحمديَّة”؛ جاءَ فيها: نخوض إليه البحر والبر والدُّجا ولا مفظع إلا إليه قَطعناه ونطوي الفَلا من شدة الشوق للقَا فتُمسي الفَلا تحكي سجـلاً قطعنـَاه ولا صدَّنا عن قصدنا فقدُ أهلنا ولا هجر جار أو حبيبٍ ألفناه وأموالنا مبذولةٌ ونفوسنا ولا نبغ شيئًا مُنعناه عَرَفنا الذي نبغي ونطلب فضله فهان علينا كلُّ شيء بذلناه ولو قيل إن النَّار دون مزاركم فَزعنا إليها والعذُول دفعنَاه [شفاء الغرام: 2/345] وأنشد الرئيسُ شهاب الدين أحمدُ بن الحافظ صلاح الدِّين العلائي [ت: 802هـ]، أنَّ الأستاذ أبا حيان محمَّد بن يوسف الأندلُسي النَّحوي [ت: 745هـ] صاحب تفسير البحر المحيط، أنشدَ لنفسه قصيدةً نبويةً على وزن بانت سعاد؛ قال فيها يصفُ حجَّاج بيت الله: يسوقهم طربٌ نحو الحجاز فهم ذوو ارتياحٍ على أكوارها ميل شعثٌ رؤوسهم يُبْسٌ شفاههم حُوص عيونهم غُرث مهازيل حتى إذا لاحَ من بيت الإله لهم نورٌ إذا هم على الغَبرا أراجيل يُعفرون وجوها طَال ما سَهِمت باكين حتى أَديم الأرض مبلول [شفاء الغرام: 2/351] ثم تأتي بعدَ ذلك، بل قبل كثيرٍ من قصائد التحنُّن لمكة والوَجد على عَفَرائها العَطرة، فتجودُ الكلمةُ بأكرم ما يكون مِن وَدق المشاعر الخالدة وعَارض الأماني الماجدة، ويا ليتها الكلمة فحسب! بل جَادت وفَاضت معها رُوح المتوجِّد وَنَفَسُه الطَّاهر؛ فهذا الشَّيخ عبد الرحيم بن أحمد البُرعي [ت: 803هـ] أحد فُحول شعراء القرن الثَّامن الهجري، مِن قريةِ “النِّيابتين”، في جبل “بُرَع”، أحد جبال تهامة اليَمن؛ يُقيد المؤرِّخون وأهلُ التراجم أنه كان مفتيًا، وعلى قدر رفيع في الأدبِ واللغة والسِّيرة النبوية، وأنَّه وفي رحلة له للحرمين الشريفين، أحسَّ بدنوِّ أجله لما صار على بُعد خمسين ميلا من مكَّة، فكتب داليتَه المشهورةَ المتألِّقة في الشَّوق لبقاع مكَّة وثَراها؛ ثم توفَّاه الله ودُفن بـ”خيف البرعي”، جهة “وادي الصَّفراء”، بـ”محافظة بدر”؛ وممَّا خَلدَ من هذه الدَّالية، ما أنشدهُ: يا راحلين إلى منىً بقيادي هيجتمُ يوم الرحيل فؤادي حرَّمتمُ جفني المنام لبعدكم يا ساكنين المنحنَى والوادي سرتم وسار دليلكم يَا وحشتي العِيسُ أطربني وصوتُ الحادي فإذا وصلتم سالمين فبلِّغوا مني السلامَ أُهَيْلَ ذاك الوادي وتذكَّروا عند الطواف متيمًا صبًّا فني بالشَّوق والإبعادِ لي من ربا أطلال مكَّة مرغبٌ فعسى الإلهُ يجود لي بمرادِي [المرشد إلى فهم أشعار العرب: 5/128] ثمَّ يمتدُّ من بعد ذلك التصوير الشِّعري؛ ليرصدَ ويرسمَ بريشته نسقًا وشجنًا آخر من شوقيَّات البلدِ الحرامِ؛ يومَ أن يلوحَ للعينِ محصَّب مكة أو خيفُها، أو تبدوَ منها أعلامُ مَعلاتها وحُجونها، أو يتهادى على أعطاف الطَّريق كدَاء النَّقع أو نُعمان الأراكِ؛ أيُّ شوقٍ يُحكى في تلك الإقبالة الحرَّاء؟! أو أيُّ مُلحمةٍ تُروى في تلك الموقعةِ الغرَّاء؟! فأَتي رسولُ الشعر وبريدُ الحرف يُخفف من تَبَاريح هذا العِشق العَذري، ويُعالج مِن لاعجِ الشوقِ ما سَاقَ الأرواحَ قبلَ الأقدام. ومن تلك الصُّور المرقُومة: ما أنشدهُ الأديبُ أبو بكر ابنُ رشيد البغدادي [ت: 662هـ] في قصيدته الهائيَّة؛ ذَائعة الصِّيت، نَاسجة الإلهَام؛ حين قال: تراءتْ لنا أعلامُ وصلٍ على اللَّوى فمِن أَجلها القلبُ عنهم لوينَاهُ جعلنَا إله العَرش نصبَ عيوننا ومن دونه خَلف الظهور نبذناهُ وسِرنا نشقُّ البِيدَ للبلدِ الذي بجهدٍ وشقٍّ للنفوس بلغناهُ رجالًا وركبانًا على كل ضامرٍ ومن كلِّ فجٍّ مقفرٍ قد أتيناهُ [شفاء الغرام: 2/345] ثم قال: وما زال وفدُ الله يقصدُ مكة إلى أن بدَا البيت العتيقُ وركناهُ فضجَّت ضيوف الله بالذكر والدُّعا وكبَّرت الحجاج حين رأيناهُ وقد كادت الأرواحُ تزهق فرحة لما نحنُ من عظم السرور وجدناهُ ولعليِّ بن أَفلح [ت: 535هـ] الكاتب الأديب، في هذا المشهدِ: هذه الخَيف وهاتيك مِنى فترفَّق أيها الحَادي بنا واحبس الركبَ علينا ساعةً نندبُ الرَّبع ونبكي الدِّمنا فلذا الموقف أعددنَا البُكا ولذا اليوم الدُّموع تُقتنى [البداية والنهاية: 14/105] وأنشدَ الأستاذُ أبو حيَّان الأندلسي [ت: 745هـ]، في لاميَّته المجَارية لبنات سُعاد: حَفُّوا بكعبة مولاهم فكعبهُمُ عالٍ بها لهم طوفٌ وتقبيلُ وبالصِّفا وقتهم صافٍ بسعيهم وفي منى لمنَاهم كان تنويلُ تعرَّفوا عرفات واقفينَ بها لهم إلى اللهِ تكبير وتهليلُ [الإحاطة في أخبار غرناطة: 3/33] ثم يُسدل السِّتار بعد هذه الفُصُول المفعمةِ عمقًا والمرويَّةِ صدقًا، بحبِّ مكة وبيتها الحرام ومَرابعها المقدَّسة ورُسومها الماجدَات، يُخْتَمُ هذا الوصفُ الموشَّح والإلماعةُ المطرَّزة والحريرةُ الموشَّاة بمشهد البينِ والفراقِ والتَّوديع؛ فأيُّ نفسٍ تتفطَّر تلك السَّاع؟! وأيُّ كبدٍ تتقرَّح بماضياتِ الأوجَاع؟! وكأنَّ أبا تمَّام [ت: 231هـ] بين ظَهرانيهم، حين نَدَبَ مِن فجيعةِ الوَدَاع: يَومَ الفِراقِ لَقَد خُلِقتَ طَويلا لَم تُبقِ لي جَلداً وَلا مَعقولا قالوا الرَحيلُ فَما شَكَكتُ بِأَنَّها نَفسي عَنِ الدُنيا تُريدُ رَحيلا [ديوان أبي تمام: 3/66] وفي هذا المشهد أنشد ابنُ المعتزِّ [ت:296هـ] الخَلِيفة العَبَّاسي، مُؤسِّس عِلْم البَدِيع: لله درُّ منى وما جمعَت منى وبكاءُ الأحبة ليلةَ النفرِ ثم اغتدَوا فرقًا هنا وهنا يتلاحظُون بأعينُ الذكرِ ما للمَضَاجع لا تُلائمني وكأنَّ قلبي ليس في صدرِي [شعر ابن المعتز: 1/288] وأنشدَ ابن رشيد البغدادي [ت: 662هـ] أيضًا: فهاتيك أيامُ الحياة وغيرها مماتٌ فيا ليت النَّوى ما شهدناهُ ويا ليت عنَّا أغمضَ الدهرُ طرفه ويا ليت وقتًا للفراق فقدناهُ وترجعُ أيام المحصَّب من مِنى ويبدو ثراهُ للعيونِ وحصباهُ وتسرحُ فيه العيسُ بين ثمامةٍ وتستنشق الأرواحُ طيب خزاماهُ [شفاء الغرام: 2/345] وشاركَ في هذا المشهد -أيضًا- القاضي بدرُ الدين ابنُ جماعة [ت: 733هـ]، حينَ قال: ما بالُ قلبي لا يقرُّ قراره حتى يُقَضِّي من مِنى أوطارهُ ما ذاك إلا أنَّه من شوقه قد شامَ من وادي الحِمَى تذكارهُ [شفاء الغرام: 2/350] وبهذا المشهدِ من توديع مكة وثَراها الطَّاهر؛ تكتمل هذه الملحمةُ الشِّعرية والتدوينةُ الأدبيَّة التي سطَّرها وسجَّلها اللسانُ الآفاقيُّ، ورسمَ لوحتها ونسَّق أفانينها البيانُ المترامِي الأَطراف والبقاَع عن مكَّة المكرمة وحلِّها وحرمِها؛ إنَّها أنشودةُ الدَّهر، وتميمة الوَلَه، وعنوانُ التَّتيم البلدَاني؛ إنها الرُّوح التي مُزِجت مع حرف الشَّعر وخَالطت وشيجتَه حتى رأينا آدمَ الحبِّ وحواءَ الشَّوق؛ إنها مكَّة المكرمة، عرُوس أرض الله، وفاتنةُ رَبَابنة الكَلمة. وفي هذا المقام الشَّريف، والحرف الخاتم لهذا المقَال؛ لم أستطع خُلُوصًا مِن مؤذِّن الشِّعر ودَاعيه، وما غضضتُ طرفًا أو أشحتُ نظرًا؛ إلا وألهبتْ رائعاتُ هؤلاء القومَ وجدانَ القصيدِ، وَسَاقت قافلةَ القَوَافي، وَرَوَت رويَّ الشِّعر؛ كيف لا؟! ومكَّة منَّا المنزِل، وحِمَى الصِّبا، ومتربَّع الأيَّام، ومجمعُ الأَهلين؛ وفي ذلك أقولُ: حيِّي المنَازل مُشرعَاتٍ بالقِرَى حيِّي البطاحَ وريِع ذاك الوادِي سلِّم على مَعلاتها وحُجونها وارقبْ بعينِك أهلَ ذاكَ النَّادِي وَسَلْ ثبيرَ المجدِ عن غَار الحِرَا كم بَرَّحَ التَّحنان جوفَ الصَّادِي وانزِل بركبِك عند مُنْعَرَجِ الصَّفا واسكُب دموعًا كَمْ شَجَوْنَ الحَادِي هذا الجَلَال يجرُّ ذَيل فخَاره هذا الوَقَار وقِبْلة القُصَّادِ ولقد عَلَا كَعْبُ المحبِّ بطلَّةٍ لما تَعَالَت كعبةٌ بِنِجَادِ وتحطَّم الخفَّاق في حِجْرِ المُنَى وتعطَّف التَّطوافُ في إسعادِ لا رَملَ للأقدَام في صَحْن الهُدَى الرَّملُ رَملُ جوانحٍ وفؤادِ كم ليلةٍ قَد زَمْزَمَتْ بتَمَائم أَمْسَى الجَوَى مِن نَفْحِهَا بِقِيَادِ نَقِّلْ فُؤادك حيثُ شئتَ مِن الهَوَى مَا الحبُّ غيرَ محصَّبٍ وَجِيَادِ يا بُقعةً ما حَلَّ في كَبَدِ الثَّرَى طُهْرٌ كطُهْرِ غِيَاثِكِ الرَّعَّادِ يا قِطعةً مِن جَوْفِ كلِّ مُتَيَّمٍ مُزِجَتْ بريقِ مُكَبٍّرٍ وَمُنَادِي تلكَ النَّجَائِبُ قَد أَتَيْنَ مُطِيعَةً كَمْ بَشَّرَتْ بِقِلَادِهَا وَتِلَادِ تلكَ الرِّقابُ لحُبِّ مكَّة أَسْلَمَتْ أنتِ الفُؤادُ ونُورُ كلِّ سَوَادِ فَلَئِنْ تَغَنَّى بالرصَافَةِ شاعرٌ أَوْ نَاحَ شَجْوًا عاشقُ البَغْدَادِ أَوْ مَالَ أَيْكٌ فِي دِمَشْقَ وَحِمْصِهَا أَوْ جَادَ نِيلٌ مِن عَذْبِهِ الوَرَّادِ فَلَقَدْ كَفَى مِن حُبِّ مكَّة لَاعِجٌ أَنْتِ البِلادُ وأُمُّ كُلِّ بِلَادِ