في الجزيرة العربية كان البدوي لا يفارقه شيئان اثنان يعدهما من سمات الرجولة: الخنجر في حزامه والعصا في يده، إذ تعدى المعنى من مفهوم الحماية والمساندة إلى مفهوم الهيبة والقوة والرجولة، ومن هنا أصبح للعصا مكانة كبيرة لدى العرب، لما لها من شأن كبير يلخص تاريخهم وثقافتهم فهي ترتبط بأبعاد سياسية واجتماعية ودينية وأنثروبيولوجية.. لقد لازمت العصا الإنسان منذ نشأته البدائية على هذه الأرض، فلا نعلم ما هي وظيفتها وما هو مفهومها؟ ولذا شرعنا في كتابة هذه الأسطر لتتبع التصاق الإنسان منذ فجر التاريخ بها مهما كانت جنسيته على هذه الأرض، وهل لها وظيفة ومفهوم آخر غير التوكؤ عليها؟ لقد نكز الذاكرة تلك المناسبة الكبيرة في بلاد رفيدة -في عزاء الشيخ فهد بن عبدالله بن دليم شيخ شمل قبائل قحطان رحمة الله عليه-. حينما اصطفت الصفوف وحضر كبار القوم وأعيانهم من رجال الثقافة والسياسة، وتقدم محمد بن سعيد بن هتلة -وهو رئيس اللجنة الثقافية في محافظة أحد رفيدة- وأخوه الدكتور خالد من أسرة آل بن هتلة رفيدة قحطان في موقف الخطيب المفوه، يتوسط الساحة في خطاب بليغ مخاطبا الشيخ عبدالله بن فهد بن دليم والحاضرين. فبعد أن أبدي كل مشاعر الأسى والحزن على الفقيد وهو ممسكا بعصا لا يتوكأ عليها بل يحملها بكل ذلك التقدير لها لما تحمله من معانٍ ودلالات ورموز لا يفهمها إلا العرب الخُلص، ولما لها من عرف ووظيفة تطغى وتتعدى مفهوم الاحتياج والمساندة. من عادات القبائل في مناسباتهم العامة أن يقف المرحبون وأهل المناسبة في صف مقابل صف الضيوف، ثم يبدأ الضيف في إطلاق سبب قدومهم بصوت جهوري متقدم صف الضيوف، والمرحبون واقفون صفا واحدا يستمعون حتى ينتهي، ثم يردون أصحاب المناسبة عليهم بكلمات الترحيب التي تفوق وصف المشاعر المتبادلة ولها صيغات مختلفة ومحفوظة لدى جميع القبائل. ومن هنا يقف محمد بن سعيد بن هتلة قائلا في هذا المقام المهيب بعد أن تحدث عن المرحوم وخصاله وقامته السامقة كشيخ من شيوخ قحطان، وبمناسبة تولي ابنه الشيخ عبدالله ابن دليم المشيخة بعد أبيه: "أما ما شاهدنا في اجتماع أسرة آل دليم واتفاقهم في اليوم الثالث من العزاء، واتفاقهم هذا أثلج صدور قحطان كلها من باب صنعا إلى هضبة الجولان، هذا الاتفاق وهذا الاتزان في أمراء قحطان.. أما أنت يا شيخ عبدالله فليس بغريب عليك فأنت تقوم مقام والدك". ثم يأتي الحدث عن العصا التي كان يحملها بكل تقدير وبكل حرص ألا تلامس الأرض، لما لها من دلالة أتى بها لهذا الشأن فيقول: "هذه العصا من العتم (أي أنها صنعت مادتها من شجر العتم وهو الأكثر صلابة)" ثم يتابع: "هذه العصا ليست عادية ولها رموز، أول الأمر أنه كتب اسمك عليها وكتب منصبك وكتب فيها تاريخ اختيارك شيخا لقبائل قحطان، وهذا إهداء منا آل بن هتلة زَربة رفيدة، ثم إنها لبست ثلاث تلبيسات من الجلد ولكل تلبيسة معنى، أولا هذه في رأس العصا حنا يا قحطان عصابة رأسك، التلبيسة الثانية في وسط العصا فهذه حنا محزمك ودرعك، والتلبيسة الأخيرة في أسفل العصا فتخطو بك إلى كل علم غانم وتسير بك ونحن معك"، ثم يتلو ذلك كلمة الشيخ عبدالله ترحيبا بهم مستهلا بالدعاء لحكامنا ولولاة أمرنا ولدولتنا العظيمة بالعزة وبالكرامة. إن ما دعانا لكتابة هذه الأسطر هو احتفاظ أهلنا وقبائلنا بموروثهم الشعبي الذي لا نزال نعتز به، فهذا المشهد هو أشبه بالطقس الدرامي الذي له مكان وزمان ونص ومرسل ومشاهدين وهو متوارث في بلادنا عبر الأجيال هذا أولا.. ثانيا أهمية العصا في التاريخ لما تحمله من موروث عبر العصور كما ذكرنا سلفا، بأنها ترافق الإنسان منذ العصر الحجري. فقد كانت تصنع من الحجارة للحماية من الوحوش كسلاح، كما أن وظيفتها آنذاك كانت للصيد ولجلب الثمار لمتناول اليد. ولذا أنشئت لها المتاحف في جميع أنحاء العالم سواء في بريطانيا، أو أمريكا وسويسرا وألمانيا والهند وغير ذلك من البلدان، حيث عصي القادة والساسة والأباطرة، فمع تطور صناعتها وتطعيمها بالذهب والمجوهرات أخذت معاني كثيرة غير تلك الوظيفة التي تلبي الاحتياج أو المساندة بل أخذت سمة القوة والمنعة فأصبح رجال علية القوم يحملونها لأنها تحمل معنى الهيبة وعلو المقام، كما أنها تتوارث من آباء وأجداد لأبناء، وراثة الفتوة والقوة والحماية تحت مسمى (النبوت)، وعلى سبيل المثال نبوت عاشور الناجي (فتوة الحرافيش) بالجمالية في أرض مصر في روايات نجيب محفوظ. كما أن العصا في طورها السياسي تأخذ معنى الصولجان الذي يحمله الحاكم في يده كما عند ملوك الفراعنة وصولجان توت عنخ آمون المصنوعة من الذهب الخالص.. وعالميا نرى عصا شارلي شابلن. من هنا أصبح أثرياء القوم يحملونها لما تضفيه عليهم من مفهوم الهيبة والثراء، كما في عصا روتشيلد وروكفليد وغيره في العصر الحديث. وكان الرئيس السادات رحمه الله يحرص على حمل ذلك الصولجان. أما في الطبقات الشعبية فهي تحمل معنى الفروسية والشجاعة ولذلك نجد رقصة التحطيب بالعصا حيث إنها حملت معنى السيف لدى مبارزات الفرسان في أوروبا في العصور الوسطى. ومن هنا أصبحت العصا تحمل مفهوما ثقافيا له من الدلالات ما لا يحتمل هذا المقال ذكرها، ففي الجزيرة العربية كان البدوي لا يفارقه شيئان اثنان يعدهما من سمات الرجولة وهما الخنجر في حزامه والعصا في يده، إذ تعدى المعنى من مفهوم الحماية والمساندة إلى مفهوم الهيبة والقوة والمنعة والرجولة، ومن هنا أصبح للعصا مكانة كبيرة لدى العرب، لما لها من شأن كبير يلخص تاريخهم وثقافتهم فهي ترتبط بأبعاد كثيرة منها السياسية والاجتماعية والدينية والأنثروبيولوجية ولذا قُدمت إهداء في هذا المحفل لتُهدى لشيخ شيوخ قحطان بهذا المعنى وبهذه الدلالة.