رغم ما أظهره التضخم من تباطؤٍ على المستوى الكلي في المملكة إلى 1.6 % بنهاية مارس الماضي، مقارنةً بوصوله إلى أعلى مستوى له خلال ستة أشهرٍ مضت عند أعلى من 1.8 % بنهاية فبراير من نفس العام، إلا أنّ وتيرته ظلت تتصاعد في ثلاث مدنٍ منها العاصمة الرياض، وصل فيها إلى 13.2 % في مدينة بريدة، وإلى 3.3 % في مدينة الرياض، وإلى 3.0 % في مدينة أبها، واشتركت جميع تلك المدن في السبب الرئيس وراء الدفع بمعدل التضخم بمزيدٍ من الارتفاع فيها، الذي تركّز في استمرار ارتفاع الإيجارات المدفوعة للسكن، حيث وصل ارتفاعه السنوي في مدينة بريدة إلى 53.7 % بنهاية مارس الماضي، ووصل ارتفاعه السنوي في مدينة الرياض إلى 19.3 %، وأخيراً وصل ارتفاعه السنوي في مدينة أبها إلى 9.4 %، وفي المجمل فقد تسارع الارتفاع السنوي للإيجارات المدفوعة للسكن على مستوى المملكة للشهر الـ25 على التوالي بمعدلٍ بلغ 10.5 %، وهو ما سبق الحديث عنه طوال العامين الماضيين، وضرورة العمل على إيجاد الضوابط التنظيمية المقيدة لحركته السعرية، بما يكفل حماية الاستقرار الاقتصادي من جانب، ومن جانبٍ آخر بما لا يضر الاستثمار في السوق الإيجارية المحلية. شهدت سوق الإيجارات في المملكة طوال العامين قفزاتٍ سعرية قياسية، بدأت من مدينة الرياض في أكتوبر 2021، ثم لحقتها جدة في يوليو 2022، ووصلت إلى أبها في مارس 2023، ثم بريدة في مايو 2023، ثم الدمام في يونيو 2023، ما شكّل في مجموعه زخماً دافعاً للتضخم نحو الارتفاع في تلك المدن بعينها بأعلى من المتوسط العام لارتفاع الأسعار على مستوى المملكة، واقتضى بدوره ضرورة إقرار تنظيم صارم لسوق الإيجارات في المملكة، تعمل على مظلته السوق وتحتفظ برشاقتها دون إلحاق الأضرار ببقية نشاطات الاقتصاد الكلي، ودون إحداث أي ضغوط على تكاليف المعيشة بالنسبة للأفراد والأُسر، سواءً في المدن التي شهدت تلك الارتفاعات القياسية، أو في المدن التي قد تلحق بركب تلك الارتفاعات في مراحل زمنية لاحقة، وبالطبع فإن التنظيم المنشود هنا يشمل كافة أنواع الإيجارات (السكني، التجاري، الخدمي، الصناعي)، واضعاً ضمن أهدافه حماية الاستقرار الاقتصادي بشكلٍ عامٍ، ومحافظاً في ذات الوقت على جاذبية الاستثمار في سوق الإيجارات، والتأكيد على أن تجربته أثبتت نجاحها في أكثر من 80 بلدٍ حول العالم، وأدّى وجوده إلى تحقيق كثير من الاستقرار الاقتصادي في تلك البلدان، وحد بدرجةٍ كبيرةٍ من زحف الأسعار (التضخم) إلى مستوياتٍ قياسية. وفقاً للتجربة العالمية الراهنة مع التضخم الراسخ والعنيد في أغلب البلدان، التي عجزت أمامه السياسة النقدية المتشددة في كبحه وإعادته لما دون 2 %، وُجد أنّ الدافع الرئيس وراء رسوخ التضخم واستعصائه على الانخفاض إلى مستهدفات البنوك المركزية، كان عائداً إلى ارتفاع الإيجارات وأسعار الطاقة، وكلاهما يتحرك خارج دائرة تأثير أي سياسات نقدية مهما كانت شدتها، وأنّ الأسواق الإيجارية في البلدان التي تفتقر إلى تنظيم إيجاراتها السكنية والتجارية، كانت الأكثر تعرضاً للارتفاعات المطردة في الإيجارات ومن ثم دفع التضخم نحو الارتفاع أو ثباته ورسوخه. كل هذا السيل من التجارب في الخارج ومحلياً، يدفع إلى أهمية إقرار تنظيم شامل لسوق الإيجارات في المملكة، والعمل على تحديثه من فترةٍ إلى أخرى، بما يتوافق مع التطورات الاقتصادية العملاقة التي تشهدها بلادنا، وأن ينصب العمود الرئيس لذلك التنظيم على تحقيق الاستقرار المستدام والشامل لكافة نشاطات الاقتصاد الوطني.