مساء الثلاثاء الماضي، كان التاريخ حاضرًا بكل هيبته وجلاله، سمعناه ورأيناه يتحدث بين يدينا بما في صفحاته من عراقة وإرث مجيد، ولقد كان من حسن حظي أن أكون هناك، مصطفًا مع جمهور كريم من المحتفلين والمدعوين، في ليلة بهيجة لا تُنسى، تم فيها تدشين أحد فعاليات تراثنا الأصيل “حصن بادي” ضمن مهرجان شتاء الباحة، بحضور كريم من مقام محافظ قلوة، سعادة الأستاذ/ علي بن أحمد الشهري، وجمعٍ من الأعيان، ومشايخ قبائل محافظة قلوة، وشيخ قبيلة بني كنانة بالنيابة عبد المجيد بن ذياب. كنت قادمًا من جدة مجيبًا دعوة كريمة لحضور تلك المناسبة الباذخة، التي تعطرت بالتاريخ وتزينت بالتراث، ومعي رفيقي الأستاذ/ محمد بن جبران سفير جمعية الأدب في منطقة الباحة، وشدنا الحضور الحافل والاستقبال المشرف، الذي يليق بذلك الأثر من ناحية وبتهامة الفيحاء ـ حرسها الله ـ من ناحية أخرى، تهامة التي عندما تذكر تفوح منها ذكريات الماضي ورونق الحاضر، وتكمن مكانتها بما تحويه من إرث تاريخي، وبما منحها الله من موقع محوري متميز، كونها امتدادًا لمكة المكرمة وزادت في الشرف علاوة ورفعة بوصف النبي بالتهامي -صلى الله عليه وسلم-. وقد ذكرها الجوهري في الصحاح بأنها كبديع العسل، أوله حلو وآخره حلو، فهي موطن تاريخنا وحضارتنا العريقة ومهد الحكمة في امتدادنا، اشتهرت بسعة محراثها وكثرة أوديتها وجبالها الشاهقة ومخاليفها الشهيرة، كعشم والسرين وما خلفته من آثار تاريخية ونقوش وشواهد إسلامية باقية، وخاصة محافظة قلوة التي تتميز بوجود الأماكن التراثية، وقريتي الخلف والخليف، ومسجدها التاريخي. كانت في زمانها حاضرةً علمية وموطنًا لبعض الأسر العلمية وأما أهل تهامة ومن يسكنها من قبائل زهران، فقد اتصف رجالها بالشجاعة والمروءة والإقدام، وأهلها يتصفون بالكرم .. فهم أهل تراحيب تبهج صدور الرجال، وهم أبواب مشرعة لا تغلق وقت الجدب أو الرخاء، وهذا من شدة يقينهم وحسن توكلهم على الله، بسطاء في زي مهابة، لا يفرق كرمهم بين رفيع ولا وضيع ولا صغير ولا كبير، ولعلي أشير هنا في عجالة إلى مجموعة منهم في الماضي خلال القرن المنصرم، حملوا لواء الكرم وذاع صيتهم، وتناقلت الناس أخبارهم أمثال: أحمد بن شتران، وأحمد بن مغطي، وأحمد العواجي، ومحمد بالقرون، ويوسف الغريري، وأحمد الدامر، وسويد بو الطيور، ومطير العاصمي، وبيوت الشياخات بوجه عام منبع كرم لا ينضب، بيوت أولئك الكرماء يعرفها الناس، أغلبها تقع على الطرقات وخاصة العقاب، لهم صحاف يجهنون ويملؤونها بالأكل، يلجأ إليهم المحتاجون وخاصة عند الجوع والقحط، وبفعلهم نالوا مكانة مرموقة في مجتمعهم، يضعونهم في المقدمة ويعتبرونهم من أهل الصلاح ويستمطرون بهم السماء. ومع ذلك لو رأيت تواضع أولئك الكرماء وهيأتهم، فإنك لا تظن منهم هذا الكرم الذي شمل الإنسان بل وتعدى إلى الطير والحيوان، فيأتي ابن السبيل ويسأل أحدهم ويظنه من تواضعه وهيئته أنه أجير، ثم يتفاجأ أنه صاحب الدار من شدة تواضعه، بل إن بعضهم يجمع الحبوب وما تبقى من الزاد في الرخاء ويخرجها للناس وقت الشدة، وآخر يقوم بسقي مرتادي السوق، وله صحفة وسط السوق يملأها بالعيش ويطعم بها الناس، وبعضهم يقوم بجني المحصول قبل استوائه، والبعض يترك جزءًا من المحصول في مزرعته للطيور ويقولون إنها جند من جنود الله، ومنهم من وزّع المحصول عند حصاده وعندما وجده لم يكف حاجتهم نحر جمله ووزعه عليهم، وآخر ذبح ثوره الذي يحرث به لعابري السبيل. وهذا يؤكد ما ذكره بعض المستشرقين الرحالة – بصفة عامة – منهم “ويلفرد ثيسيجر” المُلقب بمبارك بن لندن عن وصف كرمهم أثناء رحلته عام 1365هـ إلى تلك المناطق، وقد رأى شيخًا بدا فقيرًا جدًا وجلده ارتخى متغضنا على تجويف بطنه من الجوع. وقد كان الانطباع الأول لثيسيجر أن الرجل ربما كان “عجوزًا شحاذًا حقيقيًا” لكنه علم فيما بعد أن العجوز كان أغنى رجلٍ في قبيلته وقد أفقره كرمه. …… وأعود للحديث عن صاحب ذلك الأثر “حصن بادي” وفعاليات البرنامج المعد، وقد وددت لو أتيحت لي الفرصة بكلمة عن تاريخ المكان وقيمته وآثاره ومن سكنه .. كنبذة تعريفية نُعزز بها هوية المكان وعُمقه في نفوس أبنائنا وشبابنا، الذين قد يفتقرون إلى ذلك، خاصة أن الكثير من فقرات برنامج الحفل، كانت تصب في شكل استعراضي صرف، وعلى العموم فقيمة المكان وشخصية الحفل جديرة بالحديث عنهما. فالشيخ “محمد بن غلة” رمز من رموز الكرم، اقترن اسمه بهذا الوصف، يعرفه القاصي والداني، نقشت أخباره في أذهان الكثير من زهران وغيرهم من القبائل، فإن كانت جبال أجا وسلمى شاهدة على كرم حاتم، فإن وادي ثمران شاهد على كرم محمد بن غلة، الذي يُعد كرمه كالسيل العارم، الذي سيّره الله من أعالي السراة، داره كلها صحفة كرم لابن السبيل والمعتر وأهل الجوار ومن حل بالدار. وعن حصن بادي الشامخ فإنه يختلف عن بقية حصون المنطقة، التي أغلبها بُنيت من أجل الدفاع والحماية، بينما هذا الحصن بُني ليكون منارة ومركزًا لاستقبال الضيوف، وعابري السبيل والمحتاجين، فقد كانت مجالسه وردهاته وسقفه أشبه بخلية النحل، تعج بكثرة الزوار .. وقد وصفه الشاعر عبدالله الشافق في قصيدة قيفان بمناسبة ختان ابنه علي، تتكون من 77 بيتًا، وصف فيها بناء الدار والحصن وما اشتملا عليه من مجالس، وما قطع به من سواري، ذاكرًا بأن له خمس نوافذ وأربع زفر، وبه نقوش زاهية، كما ذكر بعض أسماء مزارعه وما يذبحه من أغنام، وتلك الصحفة التي كان يكرم فيها الضيفان، والتي لا يستطيع حملها إلا مجموعة من الأشخاص، وكانت من ثقلها عندما توضع بين الضيوف تتفدع منها السوارى، وينتدب البناء. وقصص كرمه كثيرة جدًا، منها استضافته لقبيلة بالخزمر وقبيلة بني كنانة وقبائل بني سليم في طهار أحد أبنائه، في قصة مشهورة ومعرفة يذكرها الكثيرون، كما يروى عن كرمه قصص كثيرة، منها أنه أحضر صحفة من أحد أسواق السراة ووجدها كبيرة وفرح بها، كأنما وجد كنزًا، فما كان منه إلا أن حملها على رأسه ونزل بها إلى تهامة، ليكرم بها ضيوفه .. وينطبق عليه قول الشاعر: (أما والذي لا يعلم الغيب غيره ….. ويحيي العظام البيض وهي رميم لقد كنت أطوي البطن والزاد ….. يشتهى مخـافة يومًا أن يقال لئيم) وقد مدحه الكثير من الشعراء، نذكر منهم سعيد المقري، وأحمد الحرفي، والشافق، والشعشي يقول: ليت مثل ابن غلة في الحجاز أربعة واحدًا في الباحة والثاني بدار الظفير والثالث في جداره لو بغينا نحج والرابع ينتقل في وادي مضللة زعبتك يا يماني ليش تمشي بها وابن الزياد يقول: الخلف مادامت الشمس حيه من هجوس قالها بن الزياد يالذي معسور وبلا ضحية شد باهلك وانتقل قصر بادي ويقول الشاعر عبد الله الشافق: سلام يا لليي يندرق فيه مية والمية ما يدرقونه .