إنَّ الباحثين في تراث الجزيرة العربية الجغرافي قد صبوا اهتمامهم على الجانب الإحصائي الوصفي لتضاريس البيئات الجغرافية، وقد ساقهم ذلك الاهتمام إلى مسار التوثيق وتحقيق الأمكنة ووهج الحضور البشري فيها وما جايله من تراث وعمارة وبيئات نامية وفق وسم تلك الأزمنة وما تأسس هنالك من حضارات ورموز بشرية ذات عقول. ففي كتاب معجم أودية الجزيرة للعلامة الأديب المؤرِّخ الجغرافي الموسوعي الشيخ عبدالله بن خميس -رحمه الله - ذلك السِفْرُ الفريد الذي هو حبك صواغ ماهر؛ حوى معلومات تفتقتْ عن مراسٍ ومشاهدة واستدلال تاريخي وتراثي يُعتدُ وفي ذلكم السياق يقول العلامة عبدالله بن خميس في المعجم (لقد سالتْ المعلومات عن تلك التضاريس كما سالت الأودية في بطاح الصحارى وحصبائها وحزونها وحزومها ومع التحقيق والتدقيق كان لدينا خبرة في مجال البحث الجغرافي وخلفيات عُنيتُ بها منذ الصغر وتنقلّتُ وتقلبّتُ في أرجائها واستخبرتُ واستعلمتُ ولقيتُ في هذا المجال الكثير والكثير .... إلخ طرح المؤلف) ولقد وجدتُ في فضاءات كتاب معجم أودية الجزيرة حديثاً مشوِّقاً عن أودية الجزيرة وتخصيصاً مبهرا جميلاً عن أودية الجزيرة ذلك الفضاء المكاني الذي بث فيه ابن خميس من الجغرافيا الأدبية اللغوية محمولات مجزية من المعلومات العميقة حتى تشكّلتْ أمامنا لوحات عن الأرض الجميلة التي حملتْ الإنسان ليصنع رونقها، وحضرتْ وقفة مجزية أيضاً في كتاب معجم أودية الجزيرة في رحاب «وادي حنيفة» ذلكم الوادي الذي ينحدر من الشمال إلى الجنوب مخالفاً أودية اليمامة التي تنحدر من الغرب إلى الشرق وينحدرُ من هضبة منداحة في قلب العارض تتسامى فيها ذرا جبل طويق العملاق الذي اصطف اليوم في منظومة مفاخرنا الوطنية عندما شبه سمو ولي العهد همة بلادنا وعزيمة مواطنيها بجبل طويق الأشم وقممه الشاهقة في مساحة يبلغ طولها 150 كيلاً في عرض 50 أخرى تبدأ في الشمال الغربي من منطقة الرياض وتنتهي في السهباء من محافظة الخرج .... إلخ « ومن خلال التتبع القرائي المستوعَب لمحتوى الكتاب؛ وما أورده المؤلف عبدالله بن خميس من إحالات مضمنة لبعض المصادر الجغرافية والأوصاف الغزيرة لمغاني ذلك الوادي وشعابه وآباره وسدوده وما فيه من الحُلل المندثرة؛ والحضارة البشرية المغمورة؛ فإننا ندرك أي شأن كان لوادي حنيفة فهو واسطة العقد في مستراد نجد ونواحيها؛ ومن الفرائد المعلوماتية لمعجم أودية الجزيرة ما تضمن من الأخبار المتواردة عن وادي حنيفة أنه ظل أكثر من أربعين سنة لم يقف سيله من رأسه إلى مصبه لانشغال شعابه وروافده بالسدود والحرث والعمران، فيستوعب كل واد سيله وكل رافد حرثه وعمرانه، وإن الأخبار تنتقل بالمجاورة من العيينة إلى الخرج لا تشدُّ به راحلة ولا يُسيّر به رسول». وفي حاضرنا يبدو وادي حنيفة ذلك المستراد الذي بكى واستبكى واستكتبته أقلام الجغرافيا الأدبية والتاريخ البيئي المستوحى من كنوزنا التي ما إنْ نطلع على مصفوفات وصفها نراها أقرب للمستقبل الذي تنشده بلادنا؛ فهناك حضارة بشرية امتدت على ضفاف وادي حنيفة يكفينا أن نطلع على تفاصيل من نشاطاتهم وإبداعاتهم الفطرية التي لم تصنعها المؤسسات بمفهومها الحديث حتى نؤصِّل لتلك الحضارات في سابق زمنها. وفي مبادرة السعودية الخضراء تؤسس بلادنا لثقافة الاخضرار كمنطلق حضاري صحي تتوشحه السياحة رداءً قشيباً؛ حيث أبرز الواقع استجابات مجتمعية للمناظر الطبيعية؛ ولم يغب عن وزارة السياحة اقتناص المواقع والبحث في نظائر الحضارة البشرية التي شكلتها الأودية في خصوصها والتضاريس الصحراوية في عمومها والطبيعة الخضراء في حضورها؛ ونعلم يقيناً أن ما تحدثتْ عنه المدونات والمؤلفات من روافد الأودية وسدودها؛ وما تشكّلَ حولها من جذب للمجتمعات والأفراد ليست من أشياء الصحراء فقط إنما هو إنسان ذاك المكان ومرجعيته وفق تطوره العقلي عبر العصور؛ وتأسيساً على ذلك فإننا نتوخى من وزارة السياحة استحضار معرفي للبيئات الطبيعية التي قامت عليها الحضارات البشرية في ربوع بلادنا، تتصدرها الأودية، حيث التموين والتمويل المنسكب على أحوال البشر، فلم يعد تراث البيئات الطبيعية حولنا أطلالاً؛ بل أصبحت نظيراً لأماكن حملتْ في تسلسلها الزمني آداباً ونتاج عقول أثمرت في بيئاتها «حتى أتاها اليقين» وذلك الاستحضار المعرفي يستهدفُ تهيئة مستراد وادي حنيفة وإعادة وهجه الحضاري ليكون مقامه في منظومة الاستثمار السياحي المراد تحقيقه في رؤية بلادنا العملاقة 2030، والمسح الأثري مفتتح لصناعة سياحة تخلب الألباب على مشارف وادي حنيفة وضفافه؛ وترميم بعض المواقع الأثرية التي ما زالت عالقة بصفحة وادي حنيفة تنشد الغيث والأنس البشري. ولأن الأودية كانت في عهود مضتْ مصدر جذب للاستقرار البشري فإنها اليوم متاحف طبيعية أسهمتْ الطبيعة في تشكيل معروضاتها، فلا بد من إستراتيجيات دقيقة لاستثمارها سياحياً والاحتفاء ببيئاتها احتفاءً مستداماً من خلال مقدرات بلادنا الطبيعية التي تُشكّلُ الأودية أحد روافدها!