لم أعرف الأستاذ الدكتور أبا رياض صالح بن معيض الغامدي إلا بعد عودتي من البعثة، وكانت الجامعة دمجت قسم اللغة العربية من كلية التربية في قسم اللغة العربية وآدابها من كلية الآداب، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية (حاليًّا)، عرفته حين جمعنا التدريس في مركز الدراسات الجامعية للبنات بعليشة، حيث أستوديوهات التعليم غير المباشر للطالبات، وهو يشبه التعليم عن بعد اليوم. وكان قد خصص لنا مجلس ننتظر فيه حتى يحين موعد المحاضرة. نتجاذب أحيانًا أطراف الحديث وأطرفها، كنت في تلك الأيام على خلاف مع رئيس القسم، وأثار أمر هذا الخلاف أبو رياض للممازحة، فقال أنت الرئيس القادم للقسم، قال ذلك كأنه يلمح إلى أن خلافي هو سعي مني لتولي شؤون القسم، أعلم أنه قال ذلك مازحًا وهو يضحك، وهو لا يعلم أني أبعد الناس تفكيرًا في تولي الإدارة، أية إدارة؛ لأني لا أصلح لها، وتولى رئاسة القسم أستاذنا الجليل الدكتور أبوهيثم عبدالله الجربوع، أكثر الناس تواضعًا وحلمًا وأكثرهم معرفة بأقدار الناس، ثم إنه رغب عن رئاسة القسم ليخلفه أبو رياض عام1420هـ، فكان خير خلف لخير سلف. واستطاع أبو رياض بما وهبه الله من جد وجلد وهدوء وتقدير لزملائه وقدرة فائقة على الإدارة الحسنة أن يدير شؤون القسم على أحسن وجه، ولا أنسى له أنه جاء هو نفسه إليّ في الفصل ليبشرني بترقيتي إلى درجة أستاذ في شوال 1421هـ. اتصف أبو رياض بالحلم والأناة وعرفت ذلك من أربعة مواقف، أحدها أن الجامعة زودت مكاتب أعضاء هيأة التدريس بحواسيب وطابعات، وكان من نصيبي طابعة سيئة أتعبتني وضيقت صدري فاشتكيت الأمر لسكرتير القسم الذي أغراني بالدخول على رئيس القسم والمطالبة بطابعة جيدة؛ لأن لديهم، كما زعم، طابعات جيدات، وهكذا دخلت على أبي رياض وأذكر أن الدكتور ناصر الحجيلان كان جالسًا عنده، اشتكيت وطالبت بطابعة وعلا صوتي علوًّا مبينًا، فقد كنت حانقًا على الطابعة وموغر الصدر، أوغره السكرتير سامحه الله، وتلقى أبو رياض موجات ثورتي وفثأ سورتها، ولا أدري ما قال، غير أني انصرفت ثم جئت بطابعة من منزلي ما زالت تعمل إلى اليوم، وأما الموقف الثاني فهو أنه نشب خلاف وجدال بيني وبين زميل متعاقد حول خطة طالبة كنت أرشدها، وكانت استعانت به فزودها ببعض المراجع، وكان له بحث أرادها أن تجعله من ضمن المراجع أو الدراسات السابقة؛ ولكن البحث حسب تقديري بعيد عن موضوع الطالبة وهو موضوع نحوي أما بحثه فكان أدبيًا لا علاقة له بموضوعها فوجهتها إلى استبعاده، فلما قابلني أمام مكتب رئاسة القسم راح يسب الطالبة بل يقذفها بما لا يصح، فأغضبني هذا ورفعت صوتي محتجًا، وأظهرت له سوءة مقالته وأنه قذف يمكن أن يحدّ عليه، ورأى وسمع أبو رياض ما جرى، فخرج بهدوء وأناة، وصرف الزميل، ودعاني إلى المكتب ليطيب خاطري، وأما الموقف الثالث فهو أن أبا رياض يثق بي ويقدرني كثيرًا ولذلك يريد مني أن أتولى رئاسة بعض اللجان، فكنت أقبل حينًا وأعرض حينًا، فلما وجدت منه مرة إلحاحًا غضبت ورفعت صوتي قائلاً كلفني بعضوية مئة لجنة ولا تكلفني برئاسة واحدة، وكعادته تقبل هذا بهدوء وسعة صدر، وأما الموقف الرابع فهو أن دكتورًا تقدم للعمل في القسم وكلفت قراءة رسالتيه رسالة الماجستير ورسالة الدكتوراه، قرأتهما فوجدتهما حسنتين، فكتبت عنهما تقريرًا وافيًا ونصحت بقبول طلبه، ولشدة إعجابي بالعملين سعيت لمعرفة صاحبهما، وزارني في منزلي غير مرة وأظهر لي من اللطف واللين ما رفعه عندي، وكان يشتكي إليَّ أن القسم رغب عن تلبية طلبه وهو لا يعلم علة ذلك، فسعيت إلى الدكتور أبي رياض أسأله بل لعلي مزجت ذلك بشيء من اللوم، ولزم أبو رياض الهدوء والسكينة، بل راح استجابة لإلحاحي يفسر الأمر، وذكر لي أنه سأل رئيسه المباشر فنقل إليه من صفات المتقدم ما جعله يتوقف في أمره، عذرت أبا رياض وإن حاك في نفسي أن رئيس ارجل لا يريد له الخير، وظل هذا في نفسي حتى اتصلت أسبابي بمن أثق به كل الثقة، وهو زميل لذلك الدكتور فسألته عن مقالة رئيس قسمهم فصدّقها. وشهد القسم إبان رئاسته جملة من النشاطات المهمة منها ندوة «اجتماع رؤساء أقسام اللغة العربية في جامعات دول الخليج العربية»عام 1422ه، وكانت المشكلة في ذلك الوقت أن بعض رؤساء الأقسام من النساء، فكان أمر إقامة الندوة داخل الكلية متعذرًا، ومعاملتها معاملة محاضرات الطالبات غير ملائم أيضًا، فاستعان القسم بمدير الجامعة الذي هيأ مكانًا في كلية الطب، وجعلت الندوة مقصورة على منسوبي القسم. وأذكر أني شاركت بورقة عن «مقومات الكتاب الجامعي»، بينت فيها أن الكتاب المقرر بحاجة مستمرة إلى المراجعة، وضربت مثلًا بكتابي (دروس في علم الصرف) وكان القسم قد قرره مرة وإن لم يلتزم به بعض الزملاء، وقد تبين لي أن الكتاب لا يخلو من بعض ا لأخطاء، ولكنه مع ذلك في نظر كثير من الناس من أجمع الكتب لمفردات الصرف ومن أنفعها، ولإقبال الناس عليه اشترت حقوقه مكتبة الرشد، ثم كان موضع درس علمي أنجز في العراق وصدر في كتاب «الْمَنهَجُ الصَّرفيُّ عِنْدَ إبْرَاهِيم الشَّمسَان: قِرَاءة فِي كِتَابه (دروسٌ فِي عِلمِ الصَّرف)»، ألّفه أ.د.محمد حسين علي زعيّن ، وكرَّار عبد الحميد عدنان، عام 1443هـ/ 2021م. واتصف أبو رياض بحرصه الشديد على حضور الندوات واللقاءات والمؤتمرات، وأما عمله في معارض الكتاب فأمر مشهور مقدر، وأبو رياض صريح الرأي لا يجامل، بل يصدع برأيه؛ ولكن برفق وأدب جمّ، وهو لا يتردد في الكلام وإبداء الرأي وتحمل الواجب، لا أنسى أنا كنا في فندق إنتركونتيننتال نستمع إلى محاضرة يلقيها مازن الفعر وهو لغوي ذو آراء حديثة يخالف بها المعتاد عند الناس، ومما جاء في محاضرته قوله إن الأفعال في مثل (مات الرجل، وسقط الحائط) مبنية للمجهول، ولما انتهت المحاضرة سكت الناس، ولم ينكر أحد من قوله شيئًا، ورأيت أبا رياض يلتفت يمنة ويسرة لعل أهل الاختصاص يبدون أو يعيدون، فلما استيأس منهم طلب الكلمة ليبين أن ما قاله المحاضر مخالف لما ألف في النحو العربي، وأبو رياض ليس مخالفًا للتجديد؛ ولكنه يطمع بالاقتناع بما يسمع، وآية ذلك أني ألقيت محاضرة في القسم فيها معالجة للقضايا اللغوية معالجة صوتية، منها تفسيري لنصب جمع المؤنث السالم بالكسرة نحو (قرأتُ المجلاتِ)، والمشهور في النحو أن الكسرة نابت عن الفتحة، وكان رأيي أن المسألة مردها صوتي، وهو طلب المخالفة الصوتية، وهو أمر نجده في حركة نون المثنى (طالبانِ) وحركة نون الرفع لفعل الاثنين (يذهبانِ)، وردّ قولي أستاذنا د.حمزة المزيني، أما أبو رياض فأعجبه القول وأيده باقتناع. وربما توقف في شيء وقبل شيئًا كما يظهر له بحيدة ونصفة كما رأيتها حين ألقيت محاضرة عن (أخطاء في لغة الرواية السعودية نماذج مختارة)، فعلق مبديًا قلة أهمية بعض ما جاء في العمل؛ لأنه في نظره لا يعدو تصحيح أخطاء، ولكنه أشاد بالقسم الأخير من العمل وهو الحديث عن المعجم والدلالة؛ إذ وجد ذلك طريفًا. وكان من توفيق الله أن كلف أبو رياض رئاسة القسم مرة أخرى عام 1429هـ، وكان للقسم في هذا الوقت جملة من النشاطات المهمة منها (رحلة اجتماعية ثقافية علمية إلى محافظة الزلفي)، ولم يسعدني الحظ أن أرحل معهم؛ لأني كنت مريضًا، وقلت لعلكم تقرؤون الورقة التي أعددتها، وكان عنوانها (معوقات تعليم اللغة العربية)، وجاء في التقرير الذي كتبه د. حسين المناصرة: «يوم الأربعاء 17-1-1430هـ. بدأت فعاليات يوم الأربعاء بمحاضرة عنوانها ( مشكلات تدريس اللغة)، التي ألقاها الدكتور صالح بن معيض الغامدي رئيس قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الملك سعود نيابة عن الأستاذ الدكتور إبراهيم الشمسان الذي أعدها، واعتذر عن عدم الحضور بسبب وعكة صحية ألمت به، وقد حضر هذه المحاضرة أساتذة اللغة العربية ومشرفوها بالزلفي، باعتبارها محاضرة تدريبية؛ تسهم في أن يتجاوزوا بعض المشكلات التي تواجههم في تدريس لغتنا العربية، وأن يسهموا بفعالية في مناقشة ما تضمنته الورقة من رؤى». وكان أبو رياض رأى تغيير العنوان ليلائم الغرض التدريبي، وأخبرني حين عاد أنه كان راضيًا عن الموضوع وبخاصة قولي «ومن مشكلات تعليم العربية أننا تعودنا ارتباط العربية بالشعر والقرآن والخطب والأعمال الأدبية البليغة، كأنّ اللغةَ محصورة في هذه الفنون، وأنها ليست لغةً طبيعية يجب أن تكون لغةَ مخاطبات الناس اليومية، ولغةَ كلِّ علومهم وفنونهم، ولذلك نجد أننا حين نعلمها نحرص على تخير أكثر النصوص بلاغة، ولسنا نحفل في مدى الدقة في التعبير، وربما شُغلنا عن ذلك بالمحسنات البديعية، وبالجوانب البلاغية». ومن الأعمال المهمة «قضايا المنهج في الدراسات اللغوية والأدبية: النظرية والتطبيق»، من 21 حتى 25-3-1431هـ، وشاركت بموضوع (تعميم النمط في النحو العربي: دراسة في منهج التقعيد). لم أر أحدًا يماثل أبا رياض في محبته للقسم وحرصه عليه؛ ولذلك أجده كل مرة آتي إلى القسم في مكتبه المشرع الباب، وأحسبه يأتي وإن لم يكن مكلفًا محاضرات، وحين كلف عمادة الكلية رأيته يكاد يزور القسم كل يوم، وحين كلف الدكتور خالد الحافي رئاسة القسم رأيت أبا رياض يجالسه ولا يبخل بإبداء الرأي في شؤون القسم. اكتسب أبو رياض كما أعلم محبة زملائه وطلابه لما اتصف به من صدق اللهجة وحسن الطوية، ونبل الخلق، وإخلاصه للعلم والعمل. ** ** جامعة الملك سعود - الرياض