أعادت اعتداءات «داعش» المجتمع الفرنسي إلى قرون مضت. ارتفعت أصوات اليمين واليسار مطالبة بالثأر من العرب والمسلمين. الإرهاب في فرنسا وحّد الأوروبيين. بوعي أو من دون وعي عاد الجميع إلى القرون الوسطى، حين كانت القارة موحدة ترسل الحملة تلو الحملة إلى «الشرق»، في ما عرف بالحروب الصليبية. بعض المؤرخين والمثقفين، الأكثر حداثة، دعوا إلى استعادة أمجاد الاستعمار واحتلال العراق وسورية. الجميع نصّب هولاند قائداً للحملة. الرجل لم يقصر. لم يشأ إضاعة الفرصة الثمينة. استثمر الوضع المأسوي لاستعادة هيبته، بعدما أصبحت شعبيته في الحضيض. وبعدما صعد نجم مارين لو بن. تلفَع بالعلم الوطني وأنشد المارسيلياز مع النواب والشيوخ. أرسل حاملة الطائرات إلى شرق المتوسط. ضرب «داعش» في الرقة، معلناً استعداده لمحاربة التنظيم بكل قوة، علماً أن الضربة كانت متاحة أمام طائراته قبل الكارثة بشهور، لكنه لم يفعل خوفاً من تقوية الأسد. أي أنه كان يرى «داعش» حليفاً في الحرب على النظام السوري. عندما دمر الأوروبيون مدنهم وحواضرهم في الحربين العالميتين كانوا مختلفين على تقاسم المستعمرات في آسيا وأفريقيا، وعلى نهب ثروات الشعوب فدمروا بلدانهم وبلداننا. حمَلنا إعلامهم، وبعض إعلامِنا ومثقفينا وزر الحربين، حتى أصبحنا مسؤولين عن ظاهرة هتلر والنازية والفاشية، وكان علينا قبول دولة يهودية في فلسطين تكفيراً عن ذنبهم في ارتكاب المحرقة. دفعنا ثمن تنافسهم على استعمارنا في الجزائر ومصر والعراق وبلاد الشام. كانوا يشنون الحروب علينا من دون خوف من رد فعل يطاول بلدانهم، تماماً مثلما كانت النظرية العسكرية الإسرائيلية تراهن على شن الحروب خارج أسوار الغيتو، إلى أن انقلبت الآية في عام 2006. تصالحت أوروبا، بعد الحربين العالميتين. انحسر الاستعمار التقليدي. صار همُه تنصيب موالين للميتروبول يحكمون باسمنا، وكنا وما زلنا جاهزين للاقتتال في حروب أهلية لا تنتهي. وهم جاهزون لتسعير هذه الحروب، بالوقوف مع هذا الطرف أو ذاك، وإضفاء الشرعية على هذا الرئيس ونزعها عن الآخر، حتى لو تساويا في الاستبداد. بوش الابن شن الحرب على العراق لإطاحة صدام حسين. هلل بعضنا لهذه الخطوة، توهم أنها ستخلصنا من ديكتاتور، وتدخلنا العصر الأميركي. لكن واشنطن نصّبت موالين لها لا هم لهم سوى سرقة البلاد بإشرافها. والآن تدير حروبهم على الإرهاب وتشرف على التقسيم بين المذاهب والطوائف والإثنيات. من سجونها في العراق انطلق قادة «القاعدة» و «داعش». التجربة ذاتها حصلت في ليبيا، حماسة فرنسا لإطاحة القذافي لم تضاهها حماسة. الولايات المتحدة قادت المعركة من الخلف. أطيح الديكتاتور. خرجت القبائل و «داعش» من جوف المجتمع. أصبح للإرهاب قاعدة أخرى على أبواب أوروبا. نفط البلاد أصبح نهباً للتجار والسماسرة. بأمواله يدير الإرهابيون إماراتهم. المحاولة ذاتها تجري في سورية منذ أكثر من أربع سنوات. وصل الأمر بمديري الحرب العالمية على دمشق وفيها إلى جدار مسدود. جدار مصنوع من دماء السوريين. هنا ظهر «داعش»، بفضل رعاته أكثر قوة وتنظيماً. أدى وظيفته في تخريب معالم الحضارات المتعاقبة، وفي تعميق الفتنة وتعميمها. وعندما ألغى الحدود مع العراق (هذا كان، وما زال، محرماً غربياً) أصبح يشكل خطراً على الرعاة الذين يأتمرون في جنيف وفيينا، في السر والعلن، لتقاسم المصالح (تقاسم البلاد والعباد). كتب عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران بعد الهجمات الإرهابية في باريس (لو موند) معلقاً على المجزرة الرهيبة يقول: «إذا كان نمو داعش إسلامي المنشأ ويشكل أقلية شيطانية داخله، ويعتقد بأنه يحارب الشيطان المتمثل بالغرب، فلنتذكر أن الولايات المتحدة هي التي أطلقت قواه العمياء». «داعش» صناعتنا وصناعة الغرب. ظلاميته محلية المنشأ. وليس غريباً أن تكون له حاضنة في بلدان متخلفة. لكن الغريب أن تحتضنه، مع غيره من الإرهابيين، أوروبا الديموقراطية، متخلية عن كل قيمها المستمدة من عصر الأنوار، غارقة في تجارة الحروب.