يقول تعالى: «ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم» (يونس: 65)، ويقول سبحانه وتعالى: «الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا» (النساء: 139).ويا لجلال القرآن، وعظمته وواقعية أحكامه، وكأنه يتحدث عن أحوال المسلمين اليوم، فمنذ أن فكوا ارتباطهم بالقرآن، أو ضعفت صلتهم به، قال تعالى: «وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا» (الفرقان: 30)، وقوله تعالى: «من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور» (فاطر: 10).وتعريف كلمة العزة بـ(أل التعريف) يشير إلى كمالها وتمامها، ويفيد أيضا أن العزة ليست مكونا واحدا، بل بها عدة مكونات، فهناك عزة السلطان، وهناك عزة الجاه، وهناك عزة المال والقوة، وقد يملك البشر بعض هذه المكونات، فيكون إنسان -كما يقولون- عزيز الجانب بالسلطة، أو بالجاه أو بالمال، ولكنها لا تجتمع جميعها الا في الحق سبحانه وتعالى، وقوله سبحانه: «فلله العزة جميعا» فقد جاء التعريف بأل التعريف، ووصف العزة بكلمة «جميعا» يفيدان بلا أدنى شك أنها العزة المفارقة لعزة البشر، والمسلمون اليوم يطلبون العزة من البشر، فدولة تطلب العزة من أمريكا، وأخرى تطلب العزة من روسيا، وثالثة تطلبها من فرنسا، ونسوا أن هناك العزيز الجبار الذي يملك العزة بجميع مكوناتها، فقد يكون هناك عزيز من البشر بسلطانه، أو بجاهه، أو بماله، ولكن لا يوجد إلا العزيز الحكيم، الذي يملك العزة جميعها من جميع أطرافها، وعزة البشر على اختلاف أسبابها نابعة من عزة العزيز الحكيم سبحانه وتعالى، وحين اعتز المسلمون بالإسلام استطاعوا أن ينتصروا على أعظم إمبراطوريات عصرهم، هما الإمبراطورية الرومانية، والإمبراطورية الفارسية، وكان النصر يسير دائما في ركابهم، بل ربما سبقهم كما قال الله تعالى ليلة الهجرة: «إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم» (التوبة: 40)، وتدبروا قوله تعالى: «فقد نصره الله»، فإن استخدام الفعل الماضي «نصره» يفيد أن النصر سبق فعل «الهجرة»، أيضا فإن مجيء كلمة «قد» قبل الفعل «نصره» يفيد تحقق النصر، وتأملوا كيف ختم الحق سبحانه وتعالى الآية بقوله سبحانه: «والله عزيز حكيم»، وما دام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد طلب العزة من ربه سبحانه، والعزة لله جميعا، فقد تجلى له النصر القديم ليلة الهجرة قبل أن يتحقق على أرض الواقع، فقال لصاحبه: «لا تحزن إن الله معنا».لقد تجلى النصر لرسوله (صلى الله عليه وسلم) حين نَجَّاهُ الله سبحانه من كيد الكافرين.ومعلوم أن عزة البشر مهما عظمت وتعالت فهي عزة موقوتة بزمن محدود، لأنها تحكمها المصالح ولا تحكمها المبادئ، والذي ينصرك اليوم ليحقق من خلالك مصلحة قد ينصر عليك عدوك في الغد لأن بوصلة مصلحته قد تغير اتجاهها، ولكنك حين تطلب العزة من الله تعالى صاحب العزة العظمى، وتسعى إليها بطاعتك لله تعالى، والتزامك بتعاليم دينه سبحانه، فإن الله تعالى ينصرك بتحقق مكونات العزة جميعها في ذاته سبحانه، يقول تعالى وهو يقرر حقيقة لا يجادل فيها أهل اليقين: «إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون» (آل عمران: 160).إن من يقرأ تاريخ الأمة الإسلامية، وكيف كانت تنتصر في حروبها التي خاضتها رغم قلة عددها وضعف عدتها، سوف يستولي عليه العجب، لكنه سيزول عجبه حين يستعيد قوله تعالى: «وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم» (آل عمران: 126).إذن فالنصر من عند الله العزيز الحكيم وليس من البشر أيا كانت قوة هؤلاء البشر وسلطانهم، وحتى لو استطاع واحدٌ من البشر أن ينصرك فإن دوام نصره لك مرتبط بدوام مصلحته التي ينشدها هذا الإنسان منك، أما نصر الله تعالى لك فهو نصر دائم لا ينقطع لأنك تطلبه من الحي الذي لا يموت، يقول الله تعالى: «وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا» (الفرقان: 58).وتكفي هذه الصفة الجليلة من صفات الحق سبحانه حتى تضمن لك دوام النصر وعلوه على كل نصر.