×
محافظة المدينة المنورة

أيها المعلم تصرفاتك مع الطلاب تظهر ولو بعد حين د. تنيضب الفايدي

صورة الخبر

قرأت «مسند أحمد» خلال المرحلة الثانوية، قراءة خارجية وليست مدرسية، وهو مرجع فقهي ضخم يحوي أكثر من عشرين ألف حديث نبوي شريف، قام بتدوينه العالم الجليل والفقيه العظيم أحمد بن حنبل صاحب المذهب الحنبلي المعروف، الذي يراه بعض المسلمين المذهب الأكثر تشددا في آرائه الفقهية. قرأت بداية شرحا وجيزا حول كيف يبني هذا الفقيه رؤيته، وإلام يستند في اجتهاده؛ ومعاييره، ووسائله في البحث العلمي. أعجبت بالرجل أيما إعجاب، أذهلني عقله الفذ، وحدة ذكائه، وقوته في التمسك بما يراه صائبا حتى في محنته العظيمة المعروفة التي نال فيها نصيبا كبيرا من التعذيب والسجن. وحينما بدأت في قراءة آرائه الفقهية كان بيدي قلم رصاص، أكتب تعليقي الشخصي في الهوامش، وأرسم خطوطا تحت بعض العبارات التي تتطلب مني الرجوع إليها. لم يكن هناك في اعتقادي ضير من أن أوافقه أو أن آخذ برأي غيره من الفقهاء. أحمد بن حنبل رجل علم وفقه، اجتهد وفق رؤيته، مستخدما الأدوات العلمية المتوفرة بين يديه في ذلك الزمان وفقا لتلك الظروف. ما لا يعلمه كثير من الناس عن الإمام ابن حنبل أن تلامذته كانوا يدونون عنه الأحاديث النبوية لكنه لم يسمح لأحد بتدوين آرائه الفقهية! بل ولم يكن يعتد برأي أي فقيه، بل كان يدعو دائما للعودة للأصول؛ أي القرآن والسنة، والاجتهاد انطلاقا منهما. هذه الذكريات ثارت مع الهجوم العنيف الذي لا يزال يتلقاه الشيخ أحمد الغامدي، رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكة المكرمة سابقا، لأنه ظهر على شاشة قناة «إم بي سي» بجوار زوجته وهي محجبة، إنما كاشفة عن وجهها. والهجوم هنا له عدة أسباب. المحتجون يرون أن الغامدي وقع في 3 أخطاء؛ قبوله ظهور زوجته كاشفة عن وجهها، واختياره الظهور على هذا النحو في قناة لا يقبلون توجهها الإعلامي، ومع مذيعة، أي الزميلة الدكتورة بدرية البشر، التي أيضا لا يتقبلون طرحها الفكري. هذه الأسباب مجتمعة جعلت من قضية الغامدي نجمة القضايا في السعودية هذا الأسبوع. ولكن حتى لا نكون قد منحنا المحتجين فرصة لتشتيتنا، لنكن أكثر تركيزا ونناقش السبب الرئيسي وهو الأول. من المهم أن نشير إلى أن الطرح الفقهي للشيخ أحمد الغامدي من خلال وسائل الإعلام المختلفة لم يجز بحسب رأيه كشف الوجه فقط، بل فتح ملفات أخرى لها علاقة بالرجل كجواز أن يطيل ثوبه أو ما يسمى بالإسبال إن لم يتقصد الخيلاء، وأن إطلاق اللحية جائز وليس واجبا كما هو شائع، وغيرها. مثل هذه الأمور كانت من المحظورات المسيجة بالكهرباء، قلما نجد من يفتش حولها. الغامدي قرع طبول حرب اجتماعية وليست فقهية، أما العلم الفقهي بكل تفصيلاته فمتاح لمن يريد أن يبحث وينقب عن أصول الأحكام وأسباب الاختلاف في آراء العلماء. ومع أني أعلم أن الغامدي اليوم في مرمى سهام الخصوم ولكني أحسده على شجاعته غير المسبوقة في فتح صندوق الأسرار. في رأيي أن ما أغضب البعض من الشيخ الغامدي ليس أنه خالف حكما فقهيا من وجهة نظرهم، بل لأنه أعاد فتح باب الاجتهاد عمليا، من خلال إظهار الآراء المتعددة لأحكام فقهية في العبادات ظن الناس لعقود أنه لا اختلاف حولها. الشيخ الغامدي كشف أنها أمور خلافية، وأن الاختلاف حولها ميزة لا معصية. الأخذ بالاجتهاد يعني بالنتيجة أن محتكري العلم الشرعي وفق مذهب واحد فقدوا هيمنتهم على توجيه الناس لمنهجهم، وهذا بالضرورة يفقدهم قوة شعبية لم يكن من المسموح المساس بها. الشيخ عادل الكلباني، إمام الحرم المكي سابقا وضع معيارا بسيطا ولكنه صحيح حول رأي عامة الناس في تغطية الوجه أو كشفه حينما قال انظروا إليهن في السفر! وهذا صحيح، غالبية السعوديات اللواتي يغطين وجوههن في السعودية يكشفن عنها قبل إقلاع الطائرة. هذا يعني أن تغطية الوجه سلوك يتماشى عند الكثير من النساء مع أعراف البلد وعادات المنطقة. الصورة من بعيد نستطيع أن نقرأها كالتالي: كل علماء الأمة الإسلامية يرون في الإسلام دينا عالميا، صالحا لكل زمان ومكان. هذه النظرية عالية القيمة، لكن إن ظلت جملة إنشائية فلا قيمة لها في الواقع، ستكون مجرد إطراء من أتباع الدين الإسلامي. كيف يمكن أن يكون الإسلام عالميا إن كان بعض معتنقيه يحصرونه في اجتهاد عالم واحد، في منطقة جغرافية واحدة، يخطّئون غيرهم من العلماء الأسلاف والأخلاف؟ قال الإمام مالك: «كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر»، يعني قبر النبي الكريم عليه الصلاة والسلام. والأخذ والرد هو دور أهل العلم الشرعي، ويناقشهم فيه الناس مع تغير حاجاتهم وتقلبات أحوالهم وظروف العالم من حولنا. الطريق الوحيد لفتح أبواب العالم للإسلام هو طريق الاجتهاد الفقهي، إن تم غلق هذا الباب أو التقليل من تأثيره، أو محاربة أهله، أو التضييق عليهم، فسيظل الإسلام مناطقيا، فئويا. وهذا ثابت تاريخيا. الإسلام لم يصل إلى أقاصي آسيا وأواسط أفريقيا وتمدد شمالا وجنوبا إلا بفعل الترغيب بالتيسير وليس التنفير بالتضييق، وكان للإسلام في كل هذه المساحات المترامية فقهاء يجتهدون في دراساتهم الفقهية، يجولون العالم حاملين أفكارهم في مخطوطاتهم وكتبهم، وكان الفقيه يجاور فقيها آخر مختلفا معه في بعض آرائه دون أن يزدريه أو يتعالى عليه برأيه. لا أحد يقول بأن الحكم القطعي هو كشف المرأة لوجهها، ولا تغطيته كذلك، الأمور الخلافية لا نقطع فيها، إنما نقول لا تضيقوا واسعا، اتركوا الناس تتمتع بسماحة دينها، لتتلذذ بالتعبد، وينشرح صدرها بالطاعة، سواء في الرياض أو جاكرتا أو لندن. a.alhazzani@asharqalawsat.com