"من السّهل أن نبني قلبا قويا لطفل، ولكن من الصعب أن نرمم كسر قلبه إذا كبُر..." - دوجلاس يحتل العلم والتعلم مركزا رئيسا للشعوب والأمم التي تهدف أن تصنع لها مجدا مسددا. وتبدأ بذرة التعلم في الطفولة المبكرة حيث المنزل والأسرة التي تبدأ بتشكيل لبنة الطفل نحو أهمية العلم والتعلم، ومن ثم بعد أن يبلغ الطفل سن السادسة يبدأ في خوض غمار التعلم وفق مسار جديد وهو المدرسة التي يقضي بها أهم فترة عمرية في حياته من السادسة إلى الثامنة عشرة، أي إلى قبيل انتقاله للجامعة والتعلم الأكاديمي. وخلال هذه الحقبة الزمنية يدخل الطفل في عراك جسدي ونفسي ومجتمعي قل من يتجاوزه بسلام. ورحم الله - شوقي - حين قال: وَتِـــلكَ الأَواعـــي بِأَيمــــانِهِـم حَقـــائِبُ فيــها الـــغَدُ المُختَبي ففيها الّــَذي إِن يُقِـــم لا يُــــعَدَّ مِنَ الناسِ أَو يَمضِ لا يُحسَبِ وَفيـــها اللِواءُ وَفيـــها المَنــارُ وَفيـــها التَبيـعُ وَفيـــها النَبــي والمعترك الذي يدخله الطفل يبدأ من الأسرة التي لا تراعي نفسية الطفل بل تزج به في تنافس لم يولد ليكون جزءا منه، بل ولد هو مشارك في الإنجاز لا منافس، ومن هنا تتشكل شخصيته مبكرا نحو العدوانية والحقد على من يتفوق عليه وذلك نتيجة لما غرس في ذهنه عن أهمية التميز بالحصول على أعلى الدرجات وإهمال أهمية التعلم والتثقف وتطوير المهارات الحياتية، لينشأ أطفال يحملون درجات عليا لكنهم مثقلون - غالبا - بالأحقاد والكره والتمرد بعقول مدججة بالدرجات خالية من ذوقيات الحياة وأساليب العيش البسيطة. تغرس كثير من الأسر في عقل الطفل أهمية الحصول على درجات عليا في المواد، وأن أي هبوط في الدرجات وعدم إدراج اسمه في قائمة المتفوقين إنما هو مؤشر فشل ذريع، فتجد الطفل يسعى جاهدا مقاتلا كي يلبي رغبة أسرته في الحصول على أعلى الدرجات ضاربا بميوله ورغباته وحقوقه النفسية عرض الحائط. بل وتفتقد الكثير من الأسر إلى معرفة معايير الذكاء، ظانين بأن الذكاء واحد ولا يعلم الغالب بأن الذكاء حسب تصنيف العالِم "هاورد" ينقسم إلى "ثمانية ذكاءات" لا إلى واحد، فهو ما بين ذكاء "عاطفي" وذكاء "رياضي" وذكاء "موسيقي" ووو..إلخ، فصبت الأسر اهتمامها على نوع واحد وهو "الذكاء المرتبط بحفظ الكتب" وأهملت بقية "الذكاءات المتعددة". فالميكانيكي الذي تعوّل عليه لإصلاح سيارتك ليس حاصلا في الغالب على الشهادة الابتدائية، لكنه يميز الخلل في سيارتك من خلال سماع صوتها دون أن ينظر لأجزائها، وما ذلك إلا أنه ذكي "حِرفيا" في مسار المهنة، والشاعر الذي تقرأ قصائده عبر الحقب الزمنية وتستمتع بقوة سبكه للشعر قد لا يفقه الألف من الباء لكن ذكاءه "لغوي" و"تصويري" جعله يصور لك الأحداث وكأنك أمام مشهد حقيقي طاف عليه قرابة الألفين عام، وما ذلك إلا لأنه ذكي بالرغم من أنه لم يذهب للمدرسة، والرياضي الذي حصد أغلب الجوائز ونال حظوة مجتمعية ونال من المال ومن الشهرة ما لم ينله آلاف العلماء مجتمعين إنما هو ذكي أيضا ذكاء "حركيا" جعله يقيس المسافات ويسخّر عامل الزمن لكل حركة أو انتقال لانتهاز الفرصة لتحقيق هدفه، بالرغم من أنه لا يعرف حتى "قانون نيوتن" ولا "نسبية أينشتاين". حينما تسعى الأسرة والمدرسة جاهدة لإثقال كاهل الطفل بقيمة "الدرجة من 100" في اختباره النهائي "وتربط الذكاء في ذهنه بأنه مسلسل بـ"حفظ الكتاب دون فهم فحواه"، وحينما تجعل من الطفل حبيس "التنافس" مع الآخرين لن نستطيع يوما أن نكتشف "الذكاءات الأخرى" التي دفنتها الأسرة والمدرسة، فكم من مبدع وكاتب وصحفي ومترجم ورئيس تحرير ورسام ومهندس وفني وقيادي وملحن وشاعر وروائي ورياضي ووو... إلخ دُفن وإبداعه معه بسبب ما يغرس في الذهن من توهمات بأن الذكاء واحد فقط. أخيرا: تذكر أخي الأب وأخي المعلم وأختي الأم وأختي المعلمة بأن الطفل بين يديك ما هو إلا نسخة غير مكررة منك أو من غيرك، وليس بالضروري أن يعيد أمجادك في مجالك أو أن يسد فجوة أمل كنت تطمح يوما أن تنالها، بل هو طائر حر يريد أن يطير في فضاء الإبداع، فكن له موجها لا معرقلا، كن له دليلا لا دكتاتوريا يريد فرض رأيه فقط، وراقب الله تعالى في هذه اللبنة الجميلة بأن لا تشوهها أو أن تحطم بنيتها، الطفل زهرة بحاجة لماء وهواء وشعاع شمس كي تزهر، ولكن كثرة الماء وكثرة الهواء وكثرة الشعاع يهلك الزهور. وتذكر بأن اكتشاف المواهب سهل من خلال مراقبة الطفل وميوله، ففي كل تصرف يتصرفه الطفل تجد فيه لمعة من ذكائه الدفين، فاعمل جاهدا للتنقيب عن الكنز المفقود في طفلك من فترة مبكرة حتى لا تخسره غدا أو تدفنه في غير مجاله، فالإبداع مرهون بالميول لا بتلبية رغبات الآخرين.